الكذب السياسي وروايات المؤامرة

محمد جمعة

يشير تاريخ العلاقات الدولية إلى أن الدول تكذب على بعضها البعض، في بعض الأحيان، حتى أن "هنري ووتون" الدبلوماسي البريطاني، في القرن السابع عشر، أطلق تعليقه الشهير بأن "السفير رجل أمين أرسل إلى الخارج ليكذب من أجل مصلحة بلده"!.

صحيح أن هذا التعليق ينطوي على مبالغة كبيرة، كونه يوحي بأن الدبلوماسيين ورجال الدولة يمارسون الكذب بعضهم على بعض طوال الوقت، بينما واقع الحال أن القادة السياسيين وممثليهم الدبلوماسيين يتعاملون بالصدق أكثر من الكذب، وحتى عندما يضطر أحدهم إلى أن يخدع الآخر، فإنه يلجأ في الأغلب إلى الكتمان والإخفاء لا إلى الكذب الصريح... فالسرية تبدو تقليدًا عريقًا توظفه الدول؛ لتطوير استراتيجيتها وأسلحتها للتفوق على منافسيها. لكن ذلك لا ينفي، في ذات الوقت، أن الدول التي تعيش في مناطق الصراعات الخطرة، والتي يكون فيها التنافس الأمني حادًا، تلجأ بالتأكيد إلى الكذب، بل ويتفشى هذا الكذب في زمن الحرب أكثر منه في زمن السلم... مثلاً، خلال الحرب العالمية الثانية أطلق البريطانيون حملة تضليل واسعة ضد ألمانيا النازية، كان الكذب فيها أمرًا عاديًا. وفي هذا السياق قال تشرشل كلمته الشهيرة: " في زمن الحرب يصبح الصدق شيئًا ثمينًا، لا بد أن يُحاط بسياج من الأكاذيب ."!

ولم يكن البريطانيون استثناء في هذا الشأن، فقد أكد الرئيس الأمريكي روزفلت في عام 1942 أنه "على استعداد أن يضلل ولا يقول الصدق إذا كان ذلك يساعده في كسب الحرب".

والحاصل بالفعل أن جميع المشاركين في الحرب العالمية الثانية –بلا استثناء- انخرطوا في حملات الكذب الاستراتيجية ضد منافسيهم.

* ما سبق ذكره يبدو مهمًا في سياق تفسير لماذا برزت روايات المؤامرة بشأن جائحة "كورونا المستجد..كوفيد-19"، التي يعاني العالم، في الوقت الراهن، وطأة آثارها السلبية الواسعة على الأصعدة المختلفة؟.!

حيث شاهدنا، خلال الشهور القليلة الماضية، مئات الفيديوهات ومقاطع الأفلام التسجيلية التي تبادلها النشطاء والجمهور العام على مختلف مواقع التواصل الاجتماعي، تغزي كلها روايات المؤامرة وتعززها، وربما نجحت في أن تحتل موقعًا معتبرًا ضمن قناعات الملايين إزاء جائحة "كوفيد-19 "!.

صحيح أن روايات المؤامرة تنتعش، بشكل عام، في أوقات الكوارث، لكن هذا لا ينفي أن التزامن بين ظهور جائحة "كوفيد–19"، وبين مشاهد الحرب التجارية التي تشنها الولايات المتحدة الأمريكية في مواجهة الصين، أمدت روايات المؤامرة تلك بذخيرة إضافية، فضلاً عن أن تبادل الاتهامات على لسان المسؤولين من القوتين العظميين، أضفى بعدًا دراماتيكيا مثيرًا على تلك الروايات!.

وهذا ما يثير المخاوف من أن يؤدي كل ذلك إلى تواري السرديات العلمية الموضوعية لأزمة "كوفيد-19"، خاصة المرتبطة بالبعدين الأيكولوجي والطبي.

وعليه تتبدى أهمية لفت الانتباه بشكل خاص للمقاربات الأيكلوجية لتلك الأزمة وللجوائح عمومًا، بما يسهم في الحاصل الأخير في ترشيد مدركات الرأي العام والنخبة ذات الاهتمام إزاءها.

وفي هذا السياق ثمة حاجة لتسليط الضوء على مصطلح "المرض الحيواني المشترك" أو (المرض الحيواني المنشأ)zoonosis الذي وإن بدا غير مألوف لمعظم الناس، إلى حد ما، إلا أنه يساعدنا على فهم السبب في أن علم الطب وحملات الصحة العامة قد تمكنت من فهم بعض الأمراض الرهيبة مثل الجدري وشلل الأطفال، لكنها لم تتمكن من قهر أمراض رهيبة أخرى مثل حمى الدنج والحمى الصفراء. وأيضا يخبرنا هذا المصطلح بشيء جوهري عن أصول الإنفلونزا التي سميت بالإسبانية في العامين 1918-1919، التي تبين أن مصدرها الأصلي طير مائي برى، وبعد أن مرت الجرثومة خلال توليفة من الحيوانات الداجنة (بطة في جنوب الصين، خنزيرة في أيوا)، ما لبثت أن انبثقت لتقتل 5 ملايين فرد قبل أن تتراجع إلى الخفاء. كذلك يخبرنا عن أصول الإيدز الذي يسببه فيروس وصل إلى البشر عن طريق أحداث قليلة عارضة في غرب ووسط أفريقيا، وهو الآن يمر من إنسان إلى آخر بالملايين... إنه مصطلح ينتمي إلى المستقبل، ولهذا سيستعمل بكثافة في القرن الحادي والعشرين.

باختصار، إننا إذا جمعنا قائمة قصيرة للعناوين التي أثارت كل عوامل القلق الكبيرة لدي البشرية، خلال العقود الأخيرة، فسنجد أن: "ماربورغ (1967)، لاسا (1969)، إيبولا (1976)، فيروس نقص المناعة البشريHIV-1,1- (ظهر في عام 1981، وعزل فى 1983)، فيروس نقص المناعة البشرىHIV-2,2- (1986) ، سين نومبر (1993)، هندرا (1994)، وإنفلونزا الطيور (1997)، النيباه (1998)، غرب النيل (1999)، سارس (2003)، إنفلونزا الخنازير (2009)، وأخيرا (كوفيد–19)"... كلها عناوين مترابطة تمثل نتائج غير متعمدة لأشياء نفعلها نحن البشر.

إنها تعكس تجمعًا لشكلين من أشكال الأزمة فوق كوكبنا. الأولى: أزمة أيكولوجية، والثانية أزمة طبية... وإذ تتقاطع الأزمتان تظهر نتائجهما المشتركة نمطًا من أمراض جديدة غريبة ورهيبة.

جملة القول، ما يسببه البشر من ضغوط أيكولوجية أدى إلى جلب الجراثيم الممرضة في وضع تلامس مع البشر. وكلما زاد تمزق النظم الأيكلوجية الطبيعية كلما زادت معدلات ظهور الجوائح. وعليه، فإن "كوفيد-19"، لن يكون الجائحة الأخيرة بكل أسف...