إعلان

التجربة في الإقليم مختلفة

محمد جمعة

التجربة في الإقليم مختلفة

محمد جمعة
12:40 ص الجمعة 22 مايو 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

في الأسبوع الماضي حاولت أن ألفت الانتباه إلى خصائص الصراعات في منطقتنا، وأوجه التشابه بينها وبين خصائص واتجاهات الصراعات في الساحة الدولية. وذكرت أنها تعكس جميعًا زيادة تدريجية ومستمرة في نسبة الصراعات الداخلية، مقارنة بالصراعات بين الدول بعضها البعض. فضلا عن زيادة تدخل أو انخراط دول أجنبية في الصراعات الداخلية، سواء في الشرق الأوسط أو في الساحة العالمية. وأشرت إلى أن هذه النتائج تدعم، في النهاية، الادعاء بأن التدخل الدولي هو أحد العوامل الرئيسية التي تؤدي إلى المزيد من الصراعات الفتاكة، والتي تترجم إلى عدد أكبر من القتلى.

لا أدرى إذا كانت تلك الخلاصة لها صلة أم لا بتفسير علاقة العالم العربي بالفدرلة، ولماذا تبدو مختلفة عن تجارب مناطق أخرى من العالم، لا سيما وأن المنطقة العربية تبرز كأكثر مناطق العالم استدعاءً للغير في حل أو تسوية مشاكلها الداخلية؟!

في عالمنا المعاصر هناك نماذج دولية عديدة ناجحة لدول فيدرالية استطاعت أن تحفر لنفسها مركزًا متقدمًا بين الأمم، وأن تتبوأ موقعًا مرموقًا في عالم العلاقات الدولية، حيث المكانة والتأثير والفاعلية سواء على الصعيد الدولي أو في محيطها الإقليمي ومجالها الحيوي... ألمانيا خير شاهد على ذلك، حتى في إدارتها لـ"أزمة كورونا".

مع ذلك تبدو الأوضاع في منطقتنا مختلفة كثيرًا، بعد أن كشفت تجربة السنوات الماضية عن أن "الفدرالة" في عالمنا العربي لم تكن أبدًا مدخلاً لتعميم التنمية، أو تطوير الإدارة، أو التخفف من قبضة المركزية وتوسيع المشاركة... بل كانت تعبيرًا عن تعدد الأجندات والمصالح الخارجية في بلادنا، سواء كانت لقوى دولية أو إقليمية.

نعم، تجربة الإقليم (التي لا تزال فصولها حاضرة) كشفت عن أن الفيدرالية كانت تعبيرًا عن انعدام قدرة المكونات الداخلية لدولنا وشعوبنا على العيش بعضها مع بعض، ومن ثم بدت وكأنها الطريق المختصرة نحو تقسيم البلاد، والنيل من النسيج الداخلي لشعوبها، واردة عن الانتماءات الوطنية الجامعة إلى حيث الانتماءات الطائفية والإثنية، أو الجهوية والمناطقية. والأخطر أن الفيدرالية عندنا لا تزال تشكل مدخلا رحبا لجولات جديدة من الحروب والنزاعات، وتشق طريقا (لا نهاية له) نحو مزيد من الانقسامات!

تطورات الأحداث في كل ملفات وأزمات الإقليم المفتوحة تتجه صوب "الفدرلة"... في اليمن وليبيا والعراق وسوريا يحدث هذا، أو تتكثف الدعوات والحملات لتحقيقه وتقنينه على الأرض.

في ليبيا، هناك في هذه الآونة، من يحاول توظيف التخريب والعبث الذي مارسته مرتزقة أردوغان بمدن غرب ليبيا خلال الشهر الأخير، في الدعوة إلى تقسيم ليبيا.. منصات قوى "الإسلام السياسي" وأقلام المحسوبين عليه يروجون الآن للحديث عن تقسيم ليبيا إلى أقاليم ثلاثة... يحدث هذا على الرغم من أن نتائج المعارك الأخيرة في غرب ليبيا أبعد ما تكون عن الحسم لصالح مليشيا السراج، وكل ما أسفرت عنه يدخل (وفقا لحسابات العمليات العسكرية وموازينها) في سياق عمليات الكر والفر التي لا تغير من جوهر المشهد أو تنفى عنه معالمه الأساسية، وأهمها أن تلك المليشيات لا يمكنها سوى إطالة أمد النزاع وفقط، وليس التقدم صوب مناطق سيطرة الجيش الوطني الليبي في شرق ليبيا. وأن ما يحدث الآن عبارة عن دورة جديدة في حلقة مفرغة، حيث تمضي التطورات في الداخل الليبي بنفس الطريقة منذ بدء الانقسام في عام 2014.

نعم هناك الآن من يريد توظيف نتائج فتح مستودعات السلاح التركي وخزائن المال القطري، ومعسكرات المرتزقة من فلول ما كان يُعرف بالجيش الحر وجماعات أصولية إخوانية وسلفية، وتدفقها نحو ليبيا، لكي يكرسوا في وعى أبناء المنطقة وشعوبها أن زمن الدولة المركزية في ليبيا ولّى، وزمن "الفدرلة" و"الأقلمة" يلوح في أفق أزمتها الممتدة منذ العام 2011.

في اليمن، ثمة تسريبات عن دوائر وثيقة الصلة بمارتن جريفيث المبعوث الدولي هناك، تحكي عن مشروع لـ"أقلمة" اليمن، ولكن إلى ثلاثة أقاليم فقط هذه المرة: واحدٌ لجماعة الحوثي في الشمال وعاصمته صنعاء. وآخر في عدن وما حولها من مناطق ومحافظات، ليكون تحت سيطرة المجلس الانتقالي، والثالث في حضرموت وما يحيط بها من محافظات وبلدات... لكأن المشروع يسعى في التقسيم النهائي لأراضي اليمن لتصبح في الحاصل الأخير "مناطق نفوذ مشروعة" للفاعلين الكبار في الأزمة اليمنية ووكلائهم المحليين، بعد أن تتم شرعنتها وتقنينها دستوريا!

في العراق، هناك فيدرالية قائمة بالفعل في شماله حيث "إقليم كردستان"... لكن وبعد الاشتباك الأمريكي – الإيراني الذي اندلع إثر اغتيال قاسم سليماني وما تلاه من أحداث، ارتفعت وتيرة الحديث عن "إقليم سني"... قبلها كانت أوساط شيعية تتحدث عن "إقليم" أو حتى "أقاليم" في المحافظات الجنوبية...

والمحصلة النهائية، أنه لا يمكن إسقاط سيناريو "الأقلمة" في العراق، بل يمكن القول إنه السيناريو الأكثر ترجيحاً، الذي ينتظر الإعداد والإخراج المناسبين للخروج إلى حيّز التنفيذ.

واشنطن، دعمت وتدعم مشاريع "الفدرلة" عموماً... هي راعية إقليم كردستان، وهي صاحبة مشروع "فدرلة العراق"، وهي حاضرة بقوة في شمال شرق سوريا لرعاية "إقليم كردي" هناك، تحت مسمى "الإدارة الذاتية"، وهي ليست بعيدة عن مشاريع "فدرلة" ليبيا واليمن.

خلاصة تجربة الإقليم التي عايشناها – ومازلنا - طيلة السنوات الأخيرة، تؤكد بوضوح أن الإدارة الذاتية مدخل إلى "الأقلمة" والأخيرة توطئة للتقسيم... هكذا تسير التطورات في منطقتنا العربية!.

إعلان