إعلان

خالد محمد خالد والبعد الإنساني للدين

د. أحمد عمر

خالد محمد خالد والبعد الإنساني للدين

د. أحمد عبدالعال عمر
08:32 م الأحد 10 مايو 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع


في كتابه "الأصولية المسيحية في نصف الكرة الغربي" أشار المفكر اللبناني جورجي كنعان إلى "أن الدين قوة محركة في الكيان الاجتماعي لا يخلو مجتمع من ممارستها إلا فيما ندر". وأضاف حقيقة تاريخية أخرى تُمثل إشكالية ظهرت في تاريخ الأديان، وهي أن تلك الممارسة أحيانا ما تأتي على حساب جوهر القيم والفضائل والمفاهيم الاجتماعية والإنسانية، وأن السبب في ذلك يعود إلى الثقافة السائدة والمؤسسات السياسية القائمة، وسعيهما لتوظيف الدين لخدمة أغراضهما.

وهذا يعني أن غياب مفاهيم الأخوّة الإنسانية عن مقولات الدين الأساسية، وتمركز المتدين حول طائفته ومجموعته وأفكاره وتصوراته ومرجعيته ومؤسسته الدينية، ثم توظيف السلطة السياسية لكل ذلك في خدمة مصالحها وتحقيق أهدافها - تؤدي إلى الجور على القيم والفضائل الاجتماعية والإنسانية، وتُسقط إنسانية الدين ودوره في خدمة الجماعة البشرية، وتؤدي لاحقًا إلى ثورة الإنسان على الدين ذاته، والنظر إليه بوصفه أحد أهم مسببات الفرقة والصراع بين البشر.

وقد أدرك الراحل الأستاذ خالد محمد خالد (1920 – 1996) بوعيه الديني والإنساني المُتقدم تلك الحقيقة قبل سنوات من المفكر اللبناني جورجي كنعان، فرأيناه، غداة قيام ثورة يوليو 1952، يُسجل بعض الأحاديث للإذاعة المصرية بغرض تصحيح الأفكار حول الدين ومفاهيمه ووظيفته. ثم أصدر هذه الأحاديث في كتاب حمل في طبعتيه الأولى والثانية عنوان "الدين في خدمة الشعب"، ثم فضل المؤلف في طبعة الكتاب الثالثة وطبعاته اللاحقة أن يكون عنوانه "الدين للشعب".

وما أحوجنا اليوم في سياق حديث مؤسسة الرئاسة، ومؤسسة الأزهر، وجموع المثقفين عن ضرورة تجديد الفكر الديني، لإعادة طبع ونشر هذا الكتاب، لأنه يُعالج بلغة بسيطة قضايا مهمة، ويخاطب العقل والقلب معًا، ويُحاول صياغة وعي جديد بالدين يتأسس على بعده الإنساني.

وفي مقدمة حديثه الأول الذي حمل عنوان "حقوق الإنسان من حقوق الله" قال الأستاذ خالد محمد خالد: "غايتنا في هذه الأحاديث أن نزود الوعي الجديد بمبررات دينية صادقة، ونضع أمام عقل الشعب وقلبه المفاهيم الحقة لكلمات السماء. وغايتنا أيضا أن ننفي عن الدين عبث العابثين ولغُو المبطلين، حتى يفيء إليه أولئك الذين شردوا منه أو كادوا، وحتى يأنس الناس إليه في يقين وحب، ويتخذوا منه في رحلة الحياة رفيقًا وعضدًا".

ثم عرض بعد ذلك بالدليل من العهد القديم والعهد الجديد والقرآن الكريم، وهي الكتب المقدسة عند اليهود والمسيحيين والمسلمين، ومن سيرة وأقوال الأنبياء- موسى وعيسى ومحمد - فكرته الأساسية التي تؤكد على الزمالة الأبدية بين دين الله، كما تؤكد على حقوق الإنسان، وعلى أن توقير الله ورعاية حقوقه يقتضيان توقير الإنسانية ورعاية حقوقها.

وفي حديث ثانٍ، أكد الأستاذ خالد محمد خالد أن لا إقطاع في دين الله، ومَن مِن رسل الله (عليهم السلام) مَن يُسيغ ضميره الحي التقي أن تملك الأرض فئة باغية عاطلة، وتملك مع الأرض الهواء والماء والبشر، فتُجبى إليها ثمرات كل شيء، ويُحرم المُجهدون في سبيلها من كل شيء.

ثم يُنكر بالدليل على بعض المتحدثين الرسميين باسم الإسلام إصدارهم فتاوى تزيد في ضراوة الاستغلال والإقطاع بكل صوره، وتُمكن قبضته الآثمة من أعناق الملايين التعسة، وتُضفي على الظلم الاجتماعي ألوانًا من المشروعية والتقديس الديني.

وتتوالى الأحاديث بعد ذلك لتصل إلى اثنين وعشرين حديثًا، تحمل عناوين عظيمة الدلالة على مضمون الكتاب، وعلى عظمة ورحابة فكر الراحل الأستاذ خالد محمد خالد، مثل: حق الشعب في أن يحكم نفسهَ بنفسهِ لِنفسه. حق الشعب في الحرية والسلام. حق الشعب في المساواة. حق الشعب في المقاومة والمعارضة. الناس إخوة. فلنفسح الطريق للكلمة. كل شيء للإنسان. احترام الحياة.

وهي أحاديث يُعالج فيها قضايا وموضوعات عظيمة الأهمية في حياة ومصير الشعوب، ثم يغمرها بضوء الدين بكل ما يمثله الدين من شُمول، ليثبت أن تعاليم الأديان وتوجيهات الأنبياء تتزامل في درءِ الضر عن البشرية، وتُجاهد في سبيل تثبيت خُطاها على طريق الخير والتقدم والصلاح.

رحم الله الراحل الأستاذ خالد محمد خالد الذي أظن أننا في أشد الحاجة اليوم لإحياء واستلهام النموذج الذي يُمثله والرمز الذي يُقدمه، وإلى دراسة سيرته وحياته وفكره، وخاصة أنه كان ولا يزال موضع احترام وتقدير الجميع، كما أنه قد جسد بحضوره ودوره وكتاباته جسرًا بين العديد من التيارات الفكرية والدينية والسياسية، وقدم فكرًا جديرًا بالدراسة والإحياء، ونموذجًا إنسانيًا جديرًا بالاقتداء.

إعلان