إعلان

فيوضات المساءات .."أقاصيص"

د. هشام عطية عبد المقصود

فيوضات المساءات .."أقاصيص"

د. هشام عطية عبد المقصود
09:10 م الجمعة 17 يناير 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

1/ مساء يتمدد عل مهل ويتسع للأغنيات، وغرفة ترسم على حوائطها قمرا وبحيرة وشجرا، وتلون الليل بضياءات النجوم التى صرت تعرفها، تلك التى تشهد كل مساء أمسيات سمرها وتسمع صوت مناجاتها، نعم صرت تعرفها تماما، وتفرق بينها، حتى إن غاب أحدها فى مساء تال عرفت.

2/ صوتك يا عبد الوهاب أنشودة لا تتوقف "فى الليل لما خلى"، حيث كرسي يستند على جدار جانبي من بلكونة صغيرة تطل على شارع متسع في نهاية المساء، وساقان ممدتان متقاطعتان تنتهيان عند جدار السور الأمامي القريب، بينما تنتصب أكواب الشاي على حافته العليا الضيقة التي بهت طلائها، تطفو فوق مياه الشاي الحمراء الساخنة أوراق النعناع الصغيرة، بينما تلوح مبتهجا لمن يعبر فى الشارع وهو يلقى التحية.

3/ عندما تبدأ دائرة التعب فى الإتساع تفرز دوائر ذات صلة، مثل فقدان الرغبة، والملل، والحزن الشفاف، الذى يبدأ مراوغا، ثم يتواتر، ويبقى، ليشكل الدائرة الكبيرة التى تجمع فى انسجام داخلها كل الدوائر الأخرى، ثم يحضر صوت ليلى مراد ليفض متاهات كل ذلك ويعيدك مطمئنا إلى مساحة هدأتك حين يجسر المسافة بين زمنين بينما ينطلق صوتها " العيش والملح".

4/ شباك وحيد يطل على شارع مزدحم، وروائح قديمة تدخل دون استئذان، ضجيج وصخب يتصاعدان، تسأل:كيف لازال قلبى تدوى داخله طواحين الصمت؟.

5/ نهار مبكر ورجل يسير وحيدا، وطريق تظلله أشجار الشتاء داكنة الخضرة، ونادل يوشك أن يضع قدح القهوة المرة فى صمت ويمضى، وسحابات رمادية تتراكم فى بطء، تحمل ماءها مترددة، وكتاب ملقى على منضدة دائرية صغيرة ، وصوت مألوف يعود من الزمان ويقترب، كانت تلك هي البداية، أما ما حدث بعد ذلك فلم تحكى بشأنه المتون البيضاء شيئا.

6/ ليس كما الليالى يكون ليلي، أشكله على يدى، وأتمهل جيدا فى التفاصيل، وأخلى ساحته من غزاة النهار، المألوفين، البصاصين، حسادى على صبرى، ثم رويدا، أمنحه رائحة شغفى، وطعم قهوتى، ولون عيون عرفها ذلك المساء الأخير، وحين أعقد جلستي، أحكى داخلي، ويعلو صوتي، فأنتشي مستزيدا، ومن أقصى قلبي يسارع الأحباء فى المجئ، فنلتقى فى موعد لانخلفه، هذا أنا، وتلك مدارات ليلي تدل علي، يا أيها السامعون، والقارئون، والعابرون، هل رأيتم ليلا كليلي؟.

7/ ها أنا ذا أقص عليكم أصل الحكاية، ولست أملك سوى سردها كما تواترت عبر الأيام ووصلتنى، وكما تناقلها الرواة الثقاة، ولكن ربما يهمكم أن تمنحوها بعض التفاصيل وقد تضعون لها الخواتيم الفرحة، أما عن إسمها – تلك الحكاية – فهو يظهر باهتا فوق غلاف قديم يقول:" ما كان من سيرة الأيام "، وقد جاء بها ما نصه: نعم .. كان قد استأنس بريتها تماما، فما من مرة نفرت ولا عقرته، واستطاع بعد لأي أن يعلمها إيقاعات النغمات الشرقية والأغنيات التي يحبها، عليكم أن تتأكدوا أنها حتى ذلك الحين لم تكن قد سمعت بها، ثم استطاع أن يلقنها بعض الكلمات العربية الفصيحة، وأيضا ببعض من مشقة أبيات الشعر القديم، لا تنسوا أصولها " الإفرنجية" ولسانها الذى يبدو أعجميا، ثم لقنها بعض الكلمات والجمل البلاغية التي خزنتها ذاكرته انبهارا واعجابا، تلك التي قرأها وصدقها من كتب ومحاورات الأصدقاء فى تلك الأيام البعيدة، تلك الكلمات التى لم يعد الآن يؤمن أبدا بحتميتها، كان كل شئ يسير على نحو يبدو إنه يحدد منتهاه وطرائقه كأنه يبصر الأشياء في نهار صفو وبثقة وإدراك كبيرين، حتى يستطيع القول أنه وهو "الملول دوما" قد غادره ذلك الإحساس كثيرا، وقد شعر أخيرا بأنه هكذا تسير الأشياء الطيبة، لكن ماحدث بعد ذلك كان عجيبا حقا، اذ بينما حاولا الخروج من الباب الضيق، قاصدين الفضاء الرحيب، وبينما كانت تمنحه يديها وتشده بقوة، كانت يداه مسترخيتين، وقد توقف فجأة عقله تماما، ثم مرت مساحة صمت تبدو الآن زمنا طويلا، وهكذا، وبفعل الطبيعة .. ومن يمكنه رد فعلها ؟! إنحشر هو "الممتلئ قليلا" بينما مرقت كأنها تسبق سرعة صوت ندائه واختفت.

إعلان