إعلان

الواقعية الفوتوغرافية وأزمة الخطاب التحليلي

طارق أبو العينين

الواقعية الفوتوغرافية وأزمة الخطاب التحليلي

طارق أبو العينين
09:00 م السبت 28 سبتمبر 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

"ده كلام نظري ومش واقعى"، تلك الجملة الصادمة باتت تعكس المنطق المهيمن على خطابنا التحليلي السطحي والمتردي بجميع أشكاله المقروءة والمسموعة والمرئية فتلك المقولة عادة ما تُقال في مواجهة أي محاولة جادة لمعالجة ما يجابهنا من مشكلات باستخدام نماذج وأدوات التحليل المنهجي التي تسهم في ربط ظواهر وأحداث تبدو لنا غير مترابطة إذا ما تعاطينا معها بجهل وسطحية دون استخدام تلك النماذج والأدوات...

فهناك ثلاث آفات ناجمة عن هذا الخطاب التحليلي السطحي انطلاقاً من فرضية أن الأدوار الأساسية لأي خطاب تحليلي تتمثل في تنوير وتثقيف المتلقي والبحث عن الحقيقة واستخدام العقل في تحليل ظواهر الواقع المُعاش واكتشاف أبعادها ...

الآفة الأولي هي مجافاته وتعطيله لدور الثقافة في حياة الناس فالفلسفة اليونانية قد لخصت هذا الدور من خلال تعريفها للثقافة بأنها محاولة دائبة وواعية بقدر ما هي صارمة ومحكمة لإحلال المعرفة محل الانطباع والظن، ومن ثم فإن أي خطاب تحليلي يعتمد فقط على رصد الوقائع دون غربلتها وتنقيحها وربطها بعضها ببعض من خلال نماذج علمية للتحليل هو بكل تأكيد خطاب مجاف ومعطل لدور الثقافة في حياة الناس ...

أما الآفة الثانية فهي فشل هذا الخطاب الذريع في الوصول إلى الحقيقة التي عرفها الفيلسوف الألماني العملاق "إيمانويل كانط" في كتابة (نقد العقل الخالص) بأنها تناظر المعرفة مع موضوعها بمعنى أن وجود الموضوع في حد ذاته وتقديمة إلي الناس على هيئة وقائع أو أحداث يومية لا يعنى بالطبع إدراكاً للحقيقة التي تتطلب وجود معرفة تلتئم مع الموضوع داخل إطار نظري بما يسهم في اكتشاف أبعاده الحقيقية ...

أما الآفة الثالثة فهي تجاهل العلاقة المباشرة التي تربط العقل بالواقع فتلك العلاقة قد شكلت أحد المحاور الرئيسية للفلسفة والعلوم الإنسانية بشكل عام منذ القرن السابع عشر وحتى الآن، فالفيلسوف الفرنسي الأشهر "رينيه ديكارت" كان يعتقد بأسبقية وهيمنة العقل على الواقع التجريبي بعكس تيارات الفكر التجريبي في بريطانيا التي جعلت الأسبقية للوقائع المادية التجريبية على حساب العقل، وهى المعضلة الفلسفية والمعرفية التي حلها الفيلسوف الألماني "إيمانويل كانط" عبر مفهوم الوعى الذى يتشكل من اندماج المعرفة القبلية (العقل والأطر النظرية الشاملة) مع المعرفة البعدية (التجربة الواقعية) ما دفع فيلسوفاً فرنسياً معاصراً صاحب مداخلات مهمة في العلوم الإنسانية وأنماط تحليلها مثل "جاستون باشلار" للقول بأن العلم ليس مجرد انعكاساً آلياً للنظام الفلسفي، ومن ثم فواجب العالم ألا يُعطى امتيازاً للفكر أو للواقع بل إنه من الضروري عليه الإقرار بالصلة الوثيقة بين الاثنين فلا بد للتجريب أن يُذعن للبرهان والحجة كما أنه لا بد للبرهان والحجة من الرجوع إلي التجريب ....

ولذلك فإن تلك الآفات قد دعت مفكراً اجتماعياً مصرياً معروفاً باستغراقه في الهم الاجتماعي المصري والعربي مثل الدكتور "عبدالوهاب المسيري" رحمه الله إلى ذم تلك الواقعية الفوتوغرافية التي تعنى التركيز على الأحداث وتتابعها دون رصدها وتحليلها من خلال نماذج معرفية، والمسيري في اعتقادي صاحب مداخلة مهمة ومتطورة في هذا المضمار فالرجل لم يكتفِ فقط بالتأكيد على توظيف النماذج التحليلية في فهم وإدراك ظواهر الواقع وأحداثه بل تجاوز ذلك إلي استخدام وتوظيف ما وصفة بالنماذج التحليلية المركبة التي تحدث عنها باستفاضة في أحد مؤلفاته الأخيرة بعنوان (الإنسان والحضارة)، فتفسير الظواهر يقتضي وفقاً لتلك النماذج المركبة الأخذ بجميع المؤثرات المحيطة سواء السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية كعناصر مساعدة لفهم وتحليل تلك الظواهر ومن ثم، فإنه يدعونا إلي رفض النماذج الاختزالية والقوالب الإدراكية الشائعة التي دشنتها تيارات الحداثة، كما أن الرجل يرفض بالمقابل النماذج البنيوية ما بعد الحداثية التي تفسر الظواهر تفسيراً لغوياً بلا أي مضمون حقيقي، ولأن انحياز المسيري رحمه الله كان للمعرفة فقط فقد انطوى نموذجه المركب على تجسير للهوة بين متناقضات معرفية كبري مع توظيف التناقض في ذات الوقت كأداة لازمة لإدراك حقيقة الظواهر متأثراً في ذلك حسب اعتقادي بمفهوم المركب الجدلي للفيلسوف الألماني "هيجل" الذى لعب دوراً محورياً في تكوين "المسيري" معرفياً في مرحلة مبكرة من حياته، ولذلك كان طبيعياً أن يسمى نموذجه بالمركب فبرغم أنه يضع إطاراً شاملاً للتحليل والمعرفة على غرار نمط "هيجل" إلا أن هذا الاطار يخضع في المقابل إلى المراجعة وأعاده التقييم إذا ما فشل واقعياً مثل ما كان يعتقد خصوم "هيجل" من أقطاب تيار العقلانية النقدية وبرغم أنه يسعى كذلك إلى التعاطي الموضوعي مع الظواهر إلا أنه لا يغفل أبداً البعد الذاتي وراء تشكلها وتفسيرها، ومن ثم فإن مساحة الحقيقة عند "المسيري" هي تلك المساحة غير المنحازة الناتجة عن صراع الشيء ونقيضه التي يتجاهل الجميع رصدها بفعل الانحيازات المعرفية المُسبقة....

ومن ثم يمكن القول في النهاية أننا نعيش مفارقة معرفية مؤلمة فالسياقات التاريخية التي أنتجت فكراً متطوراً وبالغ التعقيد مثل فكر "المسيري" كانت أفقر وأقل تطوراً في مراحل كثيرة من حياة الرجل مقارنة بما نعيشه الآن في ظل ثورة الاتصالات وشيوع أنماط ووسائط المعرفة الحديثة التي ساهمت على العكس في شيوع تلك الواقعية الفوتوغرافية وخطابها التحليلي السطحي كبديل رديء للنماذج وأدوات التحليل المنهجي وما تنتجه من معرفة حقيقية تتسم بالرصانة والواقعية في آن واحد ...

إعلان