إعلان

جدلية المثقف الكوني والمثقف التقني

طارق أبو العينين

جدلية المثقف الكوني والمثقف التقني

طارق أبو العينين
09:00 م السبت 14 سبتمبر 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

تُعد جدلية المثقف الكوني والمثقف التقني من الجدليات المهيمنة على علم الدراسات الثقافية بوصفه فرعاً مستحدثاً من فروع العلوم الإنسانية، يهدف بالأساس إلى ربط الخطاب الثقافي بسياقيه التاريخي والسياسي، ومن ثم فإن المثقف بوصفه العنصر الفاعل والمُنتج لهذا لخطاب قد استحوذ على نصيب الأسد من تلك الدراسات، وخصوصاً فيما يتعلق بتعريفه وأنماطه اللذين يعدان انعكاساً لطريقة ونهج تعاطيه مع ملابسات وظروف الواقع المحيطة به والتي تشكل بكل تأكيد ظرفاً موضوعياً تعتمل في إطاره أفكاره ومواقفه.

ولذلك فإن هذا السجال قديم على مستوى سياقيه الزمنى والتاريخي، كما أن سياقيه المعرفي والسياسي متسعان لأنهما يغطيان أغلب النظريات الكبرى التي ربطت بشكل مباشر بين حركة الفكر وحركة السياسة والتاريخ.

فالفكر الشيوعي- مثلا- سجل عبر أحد أهم منظريه، وهو الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر انحيازه إلى النمط الكوني من المثقفين، وهو موقف أعلنه سارتر في كتابة الشهير (دفاع عن المثقفين)؛ حيث أكد بوضوح أن المتعلمين حتى وأن كانوا من أصحاب الشهادات العليا وأصحاب التخصصات في الطب والهندسة والفيزياء والطب النفسي وغيرها من الحقول المعرفية ليسوا بمثقفين؛ فهم بحسب وصفه مجرد جوقة من التقنيين، أما المثقف الذى يستحق هذه الصفة، فهو ذلك الشخص المزعج الذى يتجاوز صلاحياته كتقني معرفة، ويتدخل فيما لا يعنيه بحسب تعبير سارتر، وهو تصور اشتركت فيه المنظومة الليبرالية الداعية إلى استقلالية المثقف عن المؤسسات مع الفكر الشيوعي، فقد انطلقت هي الأخرى من فرضية أساسية تؤكد على أممية وكونية دور المثقف، فالمثقفون - بحسب وصف المفكر الفرنسي الشهير جوليان بندا في كتابه ذائع الصيت (خيانة المثقفين) هم عُصبة صغيرة من ملوك حكماء يتحلون بالموهبة الاستثنائية والحس الأخلاقي الفذ، وهم بذلك يستحقون أن يكونوا ضميراً للبشرية بفعل ما يتعرضون له من مخاطر لنشر أفكارهم، ولذلك فقد نبه بندا إلى خطورة تنازل المثقفين عن سلطتهم المعنوية والأدبية، في مقابل دور ذيلي، يتمثل في القيام بتنظيم مشاعر الجماهير الجارفة لحساب طبقة السياسيين، وهو تصور لدور وطبيعة ونمط المثقف يشاطر بندا فيه المُنظر الثقافي الفلسطيني/ الأمريكي البارز إدوارد سعيد، فشرعية المثقف تُكتسب بحسب تأكيده في كتابة (صور المثقف) بتمثيله للأشخاص والقضايا؛ انطلاقاً من المبادئ والمعايير الإنسانية الكونية والعامة؛ لأن جميع أفراد الجنس البشري يجب أن يتمتعوا بالعدالة والحرية وفقاً لتلك المعايير التي يشكل انتهاكها أمراً لا يمكن السكوت عنه، ومن ثم تجب مجابهته من قبل المثقفين، ولذلك يجب أن يبقى المثقف حراً من كل وصاية أو سيطرة مؤسساتية وفقاً لقناعة إدوارد سعيد.

وفى مقابل النمط الكوني للمثقف تشكلت خطابات سياسية وحضارية دشنها مثقفون مؤمنون بالنمط التقني "الدولتي" للمثقف، وفى مقدمتهم كبار رجالات الفكر في القرن التاسع عشر، مثل المفكر البريطاني ماثيو أرنولد الذى أكد في كتابة (الثقافة والفوضى) أن الدولة هي أفضل ذات للأمة، وأن المثقفين يجب أن ينحصر دورهم في الإعلان عن تلك الذات الفضلى، ومن ثم القيام بترشيد وضبط الوعى الجمعي للجماهير؛ لأن الديمقراطية سوف تخلق مجتمعاً مشاكساً يصعُب حكمة وهو التوجه الذى شاركه فيه الفيلسوف الألماني الكبير يوهان فيخته الذى وضع في حوليته الشهيرة (رسائل إلي الأمة الألمانية) اللبنات الأولى لتشكُّل الخطاب القومي الألماني القائم على وحدة الثقافة والمعرفة في مواجهة النزعة الليبرالية الأممية للثورة الفرنسية التي وفرت المبررات المنطقية لغزو الفرنسيين لبلاده إبان الحملات النابليونية مطلع القرن التاسع عشر، إلا أن الدفاع عن النمط التقني للمثقف قد عبر حاجز الزمن من القرن التاسع عشر وصولاً إلي النصف الثاني من القرن العشرين مع ذيوع وانتشار أفكار ومقولات تيار ما بعد الحداثة الذى يهيمن الآن على الخطاب الثقافي والمعرفي بشكل كبير؛ فالفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو يعتقد أن المثقف الكوني قد أخلى مكانه للمثقف التقني المتخصص وهى نفس قناعة مواطنه جان فرانسوا ليوتار، الفيلسوف الكبير الذى سك للمرة الأولى مصطلح ما بعد الحداثة، فهو يعتقد كذلك أن الأقاصيص الكبرى لمثقفي الحداثة قد حلت محلها أوضاع محلية ومباريات لغوية بحسب تعبيره.

ولكن في النهاية يجب التأكيد أنه برغم ما سردناه آنفاً من أطروحات بشأن هذه الجدلية الكبرى بين نمطين أساسيين من أنماط المثقفين، فإن كاتب هذه السطور يعتقد بأن هناك ثلاث ملاحظات مهمة بشأن هذا السجال بين نموذج المثقف الكوني ونموذج المثقف التقني.

الملاحظة الأولى هي أن هناك أمثلة لأطروحات ومواقف فكرية اتضح من خلالها إمكانية المزاوجة بين النمطين، فعلى صعيد الطرح الثقافي قد تمكن الفيلسوف والمُنظر الثقافي الإيطالي الشهير أنطونيو جرامشي في كتابة (دفاتر السجن) من تقسيم المثقفين إلى مثقفين تقليديين يغلُب عليهم الطابع التقني ومثقفين عضويين مرتبطين بطبقات أو مؤسسات يعملون على توسيع دائرة نفوذها وهيمنتها، مشيراً- برغم كونه مناضلاً يسارياً- إلى أن رجل الأعمال الرأسمالي يمكن أن يخلق إلى جواره جماعة كاملة من المثقفين، وهو هنا جسر فجوة هائلة من التناقضات، سواء على الصعيد الأيديولوجي بين اليمين الرأسمالي واليسار الاشتراكي أو على الصعيد المعرفي وتنميط المثقفين، ما بين نمط تقنى ونمط كونى من خلال الربط المباشر بين دور المثقف العضوي وبين انتمائه الطبقي أو علاقته المباشرة بالمؤسسات.

أما على مستوى المواقف والقناعات الفكرية فإن فيلسوفا معاصرا عملاقا، مثل الفرنسي كلود ليفي شتراوس قد تمكن كذلك من المزاوجة بين انتمائه العقائدي للشيوعية وهى مرجعية كونية وبين مشروعة الفكري كفيلسوف بنيوي وواحداً من رواد خطاب ما بعد الحداثة الذى يرفض الأيديولوجيات والأنماط الكونية للمثقفين وللأفكار...

أما الملاحظة الثانية، فتكمن في ارتباط النمط الكوني للمثقف بصراعات أيديولوجية عميقة ومباشرة تُجرد هذا المعنى الكوني لدورة وخطابة من مضامينهما فقد تصارع فلاسفة اليمين الليبرالي مع فلاسفة اليسار الشيوعي طيلة القرن الفائت انطلاقاً من قناعة رواد كلا التيارين بمرجعية كونية؛ ما يعنى أن القناعة وظروف تشكل المثقف هما ما تحكمان خياره، فتشكل لديه اليقين بمرجعية لا يقينية بالأساس؛ لأن هذا الصراع والتناقض بين الليبرالية والشيوعية ينفى كونهما حقيقتين بالمعنى الوجودي بالنسبة للإنسانية، بشكل عام لأن الحقائق الوجودية مطلقة ولا تعترف بمبدأ الصراع أو القسمة على اثنين.

أما الملاحظة الثالثة والأخيرة، فهي أن هناك علاقة عليّة تربط ما بين النمط التقني "الدولتي" وبين النمط الكوني في التفكير، خصوصاً إذا ما نزعت الفكرة الكونية إلى التعبير عن نفسها، من خلال الاحتلال العسكري، كما حدث خلال الحملات النابليونية مطلع القرن التاسع عشر التي تدثرت بعباءة نشر خطاب التنوير الليبرالي بوصفه خطاباً كونياً فدفعت الفيلسوف الألماني يوهان فيخته للارتداد عن إيمانه بقيم التنوير وتبنى خطاب "دولتي" تقني لمجابهة احتلال الفرنسيين لبلادة.

إعلان