إعلان

ما هو معروف في الحياة بالضرورة

د.هشام عطية عبدالمقصود

ما هو معروف في الحياة بالضرورة

د. هشام عطية عبد المقصود
09:12 م الجمعة 31 مايو 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

"قصة قصيرة"

جاء السؤال مباغتا أحسه فاصلًا مقصودًا وسط كلام عادي يسير ببطء طيب دون نتوءات تكسر وتيرة نمطيته، قالت مثل من يقرر شيئا صار يقينا صافيا في عقله، ربما ليؤكد على حضور لمعني خفي رأت أنه غائب عنه: "بس.. إنت عارف أد إيه ده صعب ومحزن".

تركها تكمل ولم يعلق، عرف أن هدوءه قد انقطع، أفسح مجالا كثيرا لكلمات مترادفات تتدفق نحوه ربما لتعمق وصف؛ شعورًا بالتعب من أشياء الحياة، تلك التي يعرفها البشر جميعا، لكن بعضهم يصر أنه ربما كان الكائن الأول الذي يختبر طازجتها، وأنها تخصه وحده، يردد داخله ما ألذ هذا الشعور المتناسي.

منح مزيدًا من إنصات لتفاصيل كثيرة، وبذل جهدا كبيرا ليؤكد إحساسا واضحا بالتفهم وربما بالغ قليلا في إظهار مشاركته، فقط لكي لا يتحدث، لم يكن يريد الكلام، كان مرهقا تماما، سعى لأن يجعل من اتصال الحديث الممتد بتفاصيل كثيرة متداخلة محاولة منه تتكرر لاستجلاب هدوء غاب، ويحاول أن يستحضره، وكلما تقدم في المحاولة، صارت الكلمات الدائرة تشبه خلفية لهدوئه الذي يكتسبه مع امتداد الحديث.

سيقول: فعلا.. وسيسأل في دهشة: معقول! فقط لكي يمنح حافزا للاستمرار في الحديث، ولا يبدو قاسيًا، سيغلق رنين الهاتف فورا تأكيدا لإصغائه التام، سيمنح ذلك قدرا أكبر من إحساس بفرادة الحكاية وانتصار مهم للرواية الذاتية علي كل حكايات الألم والحزن المتناثرة لدى البشر، والتي يمتلئ بها الكون.

في موسيقاه الذاتية يتذكر أن هذه حكاية واحدة لإنسان واحد، ود من التعب أن ينظر إلى الطريق ويقول: هيا أيها البشر المارون والجالسون والنائمون أطلقوا حكاويكم.. فكر أن لو كل حكاية من تلك صارت بالونا، وأخذ رويدا ينتفخ بالتفاصيل ثم انطلقت جميعها في السماء، يا تري كيف ستتشكل نهارا ظلمة الكون حين تحجب شمسها بالونات الألم العظيم.

يهمهم ويوافق برأسه وهو يستمع، يقرر: هكذا كل منا يحمل حكايته كبالون يبدو من الظاهر ملونا وهو يمسكه بيديه ويسير، لا يرى أحدًا ما بداخله بوضوح سوى عندما يقترب قليلا، كل قرب إيذانٌ بحكاية ألم وبالون جديد محتشد بالتفاصيل التي ربما هي ذاتها، لكن ترتيبها وتوقيتها مختلف، ثم تأتي لحظة كهذه ينتظرها البعض؛ ليحكوا قصة محتويات بالونهم المنتفخ بالألم والحزن، حكاية تصير مع الوقت واحدة مهما تنوعت التفاصيل أو كثرت واستفاضت.

يقول تبدو الخدعة فقط في موعد انطلاق البالون وليس في استمرار امتلائه.. الموعد فقط هو الاختلاف الوحيد بين كل الناس ومهما اختلفت جغرافيتهم الإنسانية .

لم يشأ حين بدأت التفاصيل تزداد إرهاقا أن يوقف ماكينة ضخ الكلمات، كان يهدئ نفسه بالقول إنه أكثر طيبة من ذلك.. تناول فنجان القهوة الأبيض الموضوع أمامه والذي كان يرتشف منه وحمله إلى فمه، كان شبه فارغ شعر بمرارة مطحون حبيبات القهوة المترسبة في القاع، استعذب طعم بقاياها.

فجأة وبلا مبرر تحول الكلام لمساحة أخرى حين ظهر عدد من الصور لرحلات، تبدو فيها قمة الجبال المغطاة بالثلج ناصعة البياض واليدين تمسكان بمزلاجي التزحلق، شعر برغبة في أن يفعل ذلك، أن يهبط بسرعة ضخمة من أعلى جبل الثلج هذا متلحفا كل فضاء العالم المحيط به، فقط وحده فاتحا عيونه باتساعهما ثم فجأة كما يشاهد في الفقرات الرياضية يقع على الأرض بعد انتهاء التجربة.

قال: لو استطاع الواحد أن يكون في مركبة فضائية فقط ليجرب لحظة مفارقة جاذبية الأرض وهي تخرج عن مدارها ويطل على كل الكون، أعاد التفكير في بلايين البالونات التي تحمل الحكايات الصعبة، تمنى لو أستطاع أن يثقبها ويعود منتصرا باسم كل أولئك المنتظرين، سيبدل وقتها شعار لينين التاريخي إلى جملة بسيطة: "يا بشر العالم ابتسموا".

يمضغ في عقله ببطء فكرته عن بالونات الحزن، ويقترح أن تكون بالونا كبيرا واحدا ليسهل عليه بسرعة أن يثقبه.

يحمل أشياءه من على المنضدة ويمضي، يقرر أن يسير قليلا، كان شكل النهار وهو غائم مغريا بالتأمل، يمضي حيث الأشجار الكبيرة المطلة في الجوار تتخللها مساحات صغيرة من حشائش خضراء زاهية، يقول: هكذا الحزن.. شجرة صغيرة تنبت ذات يوم، شجرة واحدة من تلك الشجيرات الكثيرة المتراصة، تنمو مبكرا دون أن ندرى، بينما تنمو معها وإلى جوارها أشجار أخرى ، شجرة الأمل مثلا، وشجرة الشغف وشجرة الثقة وشجرة التحقق وشجرة السبق وأشجار كثيرة تحمل كل ما يتضمنه كتالوج الحياة اليومي وهو يمضي كل يوم ليضيف جديدا.

في البدء تكون شجرة صغيرة غير ذات ملامح خاصة، تنمو مثلهم لا نعرفها وهي تتوه وسط كل ما حولها، لكنها تمضي وهي تمد جذورها خفية تتلمس غذاء وماء كل ما حولها من شجر، ثم تتعمق في الأرض، لتثبت نفسها بقوة، حتى تصحو ذات يوم لتجدها أكبر من كل الشجر، وارفة الأفرع تستطيل وتمتد داكنة لتظلل كل شيء ويصبح كل ما حولها شجيرات صغيرة تستظل بها ويمنحون ذات طعمها المر.

إعلان

إعلان

إعلان