إعلان

من أنت؟!... أو سؤال الهوية

د. جمال عبدالجواد

من أنت؟!... أو سؤال الهوية

د. جمال عبد الجواد
09:00 م الإثنين 14 أكتوبر 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

اجتاح الجيش التركي وأتباعه من الميليشيات السورية مناطق شمال شرق سوريا، التي يسكنها أغلبية من الكرد، والتي تديرها إدارة تهيمن عليها أحزاب كردية. الكراهية بين الترك والكرد عميقة، فالأتراك يعتبرون الكرد تهديدا مباشرًا لدولتهم، بسبب سعيهم للانفصال، أو لنوع من الحكم الذاتي العميق الذي يراه الأتراك تهديدا لبلدهم. الكرد من ناحيتهم يعتبرون الأتراك الجلاد الأكثر قسوة للشعب الكردي، ويعتبرونهم مسؤولين عن حرمان الكرد من ممارسة الحق في تقرير المصير.

للكرد مشكلات مع العرب والفرس أيضا، فلكل منهما نصيبه الذي ساهم به في المأساة التاريخية للشعب الكردي. انتفضت الدول العربية ردا على العدوان التركي على سوريا الشقيقة، وأصدرت الجامعة العربية بيانا قويا يدين العدوان، دون أن يرد في البيان ولو مرة واحدة الكرد السوريون، الضحية المباشرة للعدوان التركي، والسبب المباشر للعدوان التركي، فالعرب لديهم مشاعر سلبية تجاه الأتراك بسبب ميراث الحكم العثماني، ويرون في احتلال تركيا لأرض سوريا تمزيقا لدولة عربية، وعودة لاستعمار تركي بغيض.

الشرق الأوسط هو ساحة لصراع دامٍ بين هويات لم تتعلم قبول بعضها البعض، ولم تبدع بعد أساليب التعايش السلمي بين المختلفين. إنه صراع الهويات القاتلة الذي يعتمل في الشرق الأوسط بين المكونات العرقية والثقافية والدينية المختلفة الموجودة في المنطقة. ما زال الشرق الأوسط يعيش في مرحلة الهويات الواسعة المعممة، فهذا عربي، وذاك تركي أو إيراني؛ وهذا شيعي، أو سني أو درزي أو إيزيدي، أو مسيحي أرثوذكسي أو ماروني أو كاثوليكي أو بروتستانتي. إنها جماعات عرقية ودينية واسعة، تجمع في داخلها الأفراد، فتمحو ذاتيتهم، وتجبرهم على التماهي مع الجماعة الأوسع ليحتموا بها، وإلا فقدوا كل شيء في هذه الغابة من الهويات المتصارعة.

عن هذه الظاهرة كتب الكاتب اللبناني الفرنسي أمين معلوف كتابه "الهويات القاتلة". يقاوم معلوف إجبار الفرد على الانصياع لقالب هوياتي مفروض عليه، فالفرد في النهاية له هويته الخاصة التي هي مزيج من عدة هويات، تختلط فيما بينها في كل مرة وداخل كل فرد بطريقة جديدة، فتمنح الفرد هويته المميزة. يسترجع أمين معلوف سيرته الذاتية، فهو من لبنان، الذي ولد وعاش فيه حتى زاد عمره عن الخمسة وعشرين عاما؛ العربية هي لغته الأم التي يجيدها ويحبها. هاجر معلوف من لبنان عندما أجبرته ظروف الحرب الأهلية للهجرة إلى فرنسا، فأصبح فرنسيا، يكتب وينشر بالفرنسية. معلوف مسيحي من طائفة مسيحية صغيرة هي الروم الكاثوليك، لكن لغته العربية تقيم له مع المتحدثين بالعربية، وأغلبهم من المسلمين صلة قوية. والدة أمين معلوف كاثوليكية، في حين أن أباه بروتستانتي، فنجحت أمه في تنشئته كاثوليكيا، في حين سجله أبوه لدى الدولة بروتستانتيا. كل هذه الهويات تعتمل داخل أمين معلوف، الذي يصر على أن هويته هي محصلة كل هذا الخليط الغني المتوتر، ويرفض اختزالها إلى أي شيء أقل من ذلك.

ينبهنا أمين معلوف إلى تعقيد وثراء مسألة الهوية، ويدعو كل منا للنظر داخله للتعرف على المصادر التي تكون هويته، ليقبلها جميعا، ويرفض ما يحاوله البعض من تلخيصها واختزالها في هويات بسيطة منفردة أحادية متصارعة، فهل يمنحنا الشرق الأوسط المضطرب الفرصة لنقوم بذلك؟

إعلان