إعلان

وصف مصر من تاني

وصف مصر من تاني

د. أحمد عبدالعال عمر
09:00 م الأحد 24 يونيو 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

مع مرور العمر، وطول العشق والقراءة والمعايشة، والسير عبر جغرافية الوطن الممتدة من الشمال للجنوب ومن الشرق للغرب، يكتشف المرء أن لمصر أكثر من تاريخ، وأكثر من شعب، وأن لها ظاهرًا وباطنًا، وجوانب ضعف وأمراضًا اجتماعية مستوطنة، وجوانب قوة وقيمًا ثقافية وحضارية ثرية ومتأصلة.

وهذا الاكتشاف يُحتم على عاشقها الأصيل السعي لفهم شخصية مصر على نحو شامل، والتمييز بين الحقيقي والزائف في تاريخها، المقيم الأصيل والعابر الدخيل على ثقافتها، والوقوف على سر استمرارها ووجودها ووحدتها، ومعرفة ما هى جوانب القوة في تاريخها وثقافتها وعاداتها وتقاليدها، التي يجب الاستثمار فيها والبناء عليها، وما هى جوانب الضعف التي يجب هدمها وتركها.

وهذا يدفعني للقول إننا صرنا اليوم بعد أكثر من قرنين على وضع علماء الحملة الفرنسية لكتاب وصف مصر- الذي يعد أشهر المؤلفات الحديثة التي تناولت تكوينًا وثقافة وفنون مصر عند مطلع القرن الثامن عشر الميلادي، وبقدر كبير الشمول والتنوع - في أشد الحاجة لوصف مصر من تاني بعد المتغيرات الرهيبة التي طرأت على المجتمع المصري وعاداته وتقاليده وثقافته وفنونه في القرنين الماضيين بصفة عامة، والخمسين سنة الأخيرة من تاريخ مصر بصفة خاصة.

نعم، نحن نحتاج لمشروع علمي وطني، تحت إشراف الدولة، يكون بعيداً عن أهواء ومطامع المستعمرين والباحثين الغربيين، لصنع "كتاب وصف مصر" من تاني، ببحث علمي رصين، وشغل ميداني، ولكن بتمويل مصري ولهدف وطني، هو معرفة أين كنا، وكيف أصبحنا، وما هو مستقبل مجتمعنا وفنوننا وثقافتنا، وكيف نستعيد مكانتنا ودورنا وريادنا في المنطقة والعالم.

ومن خلال هذا العمل المؤسسي المتكامل، سوف نعيد اكتشاف بلادنا كما فعل الغرباء والمستشرقون، لكن بعيون مصرية وطنية عاشقة، وبشغف معرفي كبير، بعيدًا عن انتهازية وفهلوة أشباه الدارسين والأكاديميين.

في النهاية أقول: عيشوا مصر يا مصريين، التصقوا بذاكرة أرضها، ادخلوا في حوار مع تاريخها وثقافتها وفنونها وروحها، وواقع الحياة والناس فيها. لا تنظروا إليها من أبراجكم العاجية، وتفرطوا في التنظير عنها دون أن تروها وتعيشوها، وتعرفوا خصوصية وطريقة حياة وتفكير الأجيال المختلفة في كل بقعة فيها.

وأنتم يا أهل السلطة، ينبغي عليكم أن تسخروا كل مؤسسات وأدوات الدولة لمشروع وصف مصر من تاني؛ لأن المعرفة المستحدثة والرصينة بميراثنا الثقافي والحضاري المادي وغير المادي، وبواقع المصريين ومتغيرات المجتمع والإنسان المصري سلباً وإيجاباً، سوف يكون عامل قوة للدولة؛ فالمعرفة الكاملة تدعم قوة السلطة، وتوسع في خياراتها في التعامل مع متغيرات الواقع، والاستثمار في جوانبه الإيجابية، وعلاج أمراضه المُعوقة.

كما أن تلك المعرفة تساعد على ردم الهوة التي صارت تفصل بين مكونات المجتمع المصري، وبين قمته وقاعدته؛ تلك الهوة التي سوف يؤدي اتساعها إلى فتح الباب لمخاطر عظيمة على حاضر ومستقبل المجتمع والدولة، ولا سبيل لردمها إلا بسياسات وإجراءات خاصة تتأسس على المعرفة الرصينة وصدق ودقة الرؤية.

إعلان