إعلان

القطار والتحولات الديموجرافية والسياسية في مصر

القطار والتحولات الديموجرافية والسياسية في مصر

أكـرم ألـفي
08:14 م السبت 12 أغسطس 2017

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

أكـرم ألفي

مشهد ضحايا حادث قطاري الإسكندرية الذي راح ضحيته ٤١ شخصا أثار شجونا مصرية مع حوادث القطارات التي يروح ضحيتها فقراء في الأغلب.. مشهد أعاد لذاكرة جيلنا من الصحفيين صورة ضحايا كارثة قطار العياط في ٢٠٠٢ التي راح ضحيتها ٣٥٠ قتيلاً.

١٧ حادث قطار خلال ٢٥ عاماً من ١٩٩٢ إلى ٢٠١٧ راح ضحيتها أكثر من ٥٥٠ قتيلا ليس بالعدد القليل في دولة تفتخر بأنها الأولى في تشييد خطوط السكك الحديدية بالمنطقة ومن أوائل دول العالم التي أدخلت شبكة السكك الحديدية.

الحديث الصحفي المتواتر بعد كوارث القطارات يكون هو البحث عن المسئول المباشر هل هو سائق القطار أم عامل الإشارة وصولاً لحديث متواصل عن منظومة القطارات والنقل في مصر والمطالبة بالإقالات بدءا من الوزير انتهاء برئيس المحطة.

قصة تكررت ١٧ مرة خلال ربع قرن "من غير ليه؟" تحكي قصصاً لضحايا الإهمال وعدم الإصلاح لمنظومة القطارات في مصر ولكنها تحكي لنا تاريخاً من التحولات الديموجرافية والسياسية الحادة التي شهدتها مصر عبر ١٦٠ عاماً.

إن قصة القطار في أي دولة تغزل تاريخها الديموجرافي والسياسي والاقتصادي الحديث، قصة الأولويات للدولة وطريقها نحو التنمية وصراعاتها الطبقية والاجتماعية.

السكك الحديدية في العالم منذ ظهورها في بريطانيا في بداية القرن التاسع عشر- بالتحديد في ١٨١٤ – كانت تعبيراً عن دخول الرأسمالية الصاعدة مرحلة التوسع من أجل تعظيم أرباحها وخلق الأسواق.

قادت السكك الحديدة إلى توسع المدن عبر أكثر من قرن من الزمان وتزامنت بل وكانت عاملاً رئيسيا لحدوث ما يعرف بالقنبلة الحضرية بسبب التوسع الكبير في المدن بكل أنحاء العالم على قاعدة محطة القطار.

ودون الخوض في تفاصيل عالمية، فقد قاد القطار الأول في مصر الذي سار على القضبان في ١٨٥٤ بين القاهرة وكفر الدوار إلى جعل هذه المدينة الصغيرة عبر عقود قليلة قلعة صناعية حضرية وانتقلت من الريف إلى الحضر أسرع من كل المناطق شبه الريفية في مصر. وجعلت السكك الحديدية من مدينة طنطا مركزاً للتجارة وسرعت من تطور مدينة الإسكندرية كعاصمة ثانية لمصر.

ومن سخريات التاريخ أن هذا الخط لم يكن الهدف منه الإسكندرية أو كفر الزيات بل ربط البحرين الأحمر والمتوسط بالوصول إلى السويس لتجيء قناة السويس وتجعل الخط الرئيسي هو القاهرة – الإسكندرية.

كان اهتمام الخديوي إسماعيل بالسكك الحديدية تعبيراً عن طموح لاستكمال بناء الدولة وخلق المزيد من الأرباح عبر التجارة المنتعشة وزيادة النفوذ السياسي والسيطرة عبر مد الخطوط للصعيد.

في أقل من عشر سنوات زاد الخديوي إسماعيل مسافة السكك الحديدية في مصر من ٢٤٥ ميلاً إلى ١٢٠٠ ميل، ليصل القطار إلى الأقصر في ١٨٩٨.

إن النظام الخديوي وسلطة الاحتلال البريطاني دفعت تطوير السكك الحديدية قدماً من أجل تحقيق أهداف محددة ولكن في الواقع كانت التغييرات الاجتماعية والسياسية للقطار غير محدودة.

فقد بدأت مصر مع ظهور محطات القطارات رحلة التحول الديموجرافي من دولة ريفية بامتياز (نحو ٩٥٪ من سكانها بالريف) إلى دولة حضرية بمقاييس نهاية القرن التاسع عشر حيث بدأت المدن تظهر في الوجهين البحري والقبلي وتتحول محطات قطار بسيطة إلي مراكز للتجارة والصناعة.

ومع مد خط السكك الحديدية انتهت للأبد كافة محاولات الانفصال في الصعيد، فقد بسطت الدولة نفوذها للمرة الأولى في الصعيد عبر القدرة على النقل السريع لنقل الجنود والسلاح لمناطق التوتر بعد مئات السنوات من النزاعات بين القبائل العربية والدولة المركزية في قاهرة المعز.

واصلت السكك الحديدية تطورها في العقود الخمسة الأولى من القرن العشرين، حيث بدأت الرأسمالية المصرية رحلتها المتعرجة ليصبح الراكب الرئيسي للقطارات هم العمال والطلبة الباحثون عن فرص للتعلم من أجل الصعود الطبقي وملء وظائف الدولة الحديثة الجديدة، بل وصنعت بوتقة صهر جديدة للمصريين صنعت معه التماس بين سكان المناطق المتفرقة ويمكن بدون مبالغة القول إنها كانت مساهماً رئيسياً في صناعة الفكرة الوطنية الحديثة في مصر.

تحول القطار إلى أداة رئيسية للانتقال بمكان السكن والهجرة للمدينة، فبدأت تتشكل القاهرة الجديدة كمركز لجميع الأنشطة والمرتبطة بكل مكان في ربوع مصر وتحولت معها العاصمة إلى الازدحام وتشييد الوافدين مناطق جديدة لهم قرب محطات القطارات في الجيزة ووسط القاهرة (رمسيس) وإمبابة وبولاق الدكرور.

لقد صنعت القطارات واقعاً ديموجرافياً جديدة من مدن ومناطق تمركز في القاهرة والإسكندرية لقد صنع القطار المركز والأطراف في مصر الحديثة بل اعادت توزيع مناطق الفقر والثروة فتحولت مناطق غنية تقليدياً إلى مناطق فقيرة لبعدها عن محطة القطارات وانتقلت قرى صغيرة إلى مراكز حضرية غنية لوجودها على خط السكك الحديدية الرئيسي بين المدن الكبرى.

انتقلت القطارات إلى مرحلة جديدة مع الحقبة الناصرية، فقد مدت خطوطا جديدة للمناطق التي أنشئت فيها الدولة الجديدة المصانع وتحول خط الصعيد بالأساس إلى أسوان إلى مركز اهتمام الدولة بسبب بناء السد العالي. ولكن هذه النقلة توقفت كما توقفت الساعة في كل ربوع مصر بعد كارثة هزيمة ١٩٦٧. لتتحول الخطوط إلى قرب مناطق المواجهة العسكرية بهدف نقل السلاح والمعدات وأصبح الجنود هم الراكب الرئيسي للقطارات بدلاً من العمال والطلبة.

وفي السبعينيات توهم النظام والرأسماليون المصريون الجدد أنه يمكن تحقيق النمو على قاعدة "الفهلوة" وشهدت تلك الحقبة تراجعاً واضحاً في الاهتمام بالخدمات والبنية التحتية وكأن النمو الرأسمالي لا يحتاج لبنية أساسية وكانت النتيجة توقف حركة القطار الديموجرافية والاجتماعية عند محطة سابقة لتخلق محطات القطار بدلاً من التمركز والانتعاش حالة من الكثافة السلبية للسكان وتدهوراً في الخدمات بهذه المناطق المكتظة.

لقد تحولت محطات القطار مع توقف سريان النمو والتطوير إلى لعنة في كثير من الأحيان وأصبحت الطبقات الوسطى تبتعد قصداً عن السكن بجوارها، حيث تحولت لأسواق شعبية ومعها تدهورت أحوال السائقين اجتماعيا فقد اختفى أحمد مظهر السائق في "لوعة الحب" ليستبدله الواقع بفيلم القطار لمحمد سعيد مرزوق.

ومع بدء الإصلاح الاقتصادي في التسعينيات، كانت الأولوية للجانب المالي وجاءت خطط اصلاح القطارات متأخرة فلاحقت هيئة السكك الحديدية الحوادث في حديث طويل وقصة مستمرة من تراجع إمكانية الانتقال المكاني والطبقي والاجتماعي.

إن القطار يحمل بشراً واقتصاداً وسياسة، فقدرة استعادة الدولة السيطرة عقب فض اعتصامي رابعة والنهضة في ٢٠١٣ يعود جزء رئيسي منها لشبكة السكك الحديدية وسائقي القطارات.. وهذه قصة طويلة ستحكي يوماً.

ولكن اليوم يقف القطار المصري في منتصف الطريق.. ففي مشهد سياسي واجتماعي بامتياز كان قطار الإسكندرية ذاهبا بعيدا عن القاهرة ولكنه اصطدم بقطار آخر ليموت الفقراء الجالسون في الخلف.

فاليوم، تسعى الدولة للامتداد بعيدا عن القاهرة وإنشاء مشروعات كبرى (نظريا) وفرض نوع من السيطرة الجديد بينما الأدوات ما زالت قديمة أو متهالكة لا تستوعبها هذه الخطط، فعندما تسعى لبناء دولة جديدة وعاصمة جديدة وامتدادات تحتمل انتقالات ديموجرافية مع الإبقاء على الاستقرار السياسي فإن الدرس الأساسي هو الاهتمام بالتفاصيل وبناء الأدوات أولاً ومنها خط السكة الحديد الذي سينقل معه الموجة الجديدة من العمال والطبقة الوسطى ولو كنت طموحا رجال الأعمال من محطة رمسيس المزدحمة إلى العواصم الجديدة.

في النهاية، قصة دماء قطاري الإسكندرية هي إحدى قصص التحولات الاجتماعية والسياسية التي حملها القطار المصري عبر ١٦٠ عاما.

إعلان

إعلان

إعلان