إعلان

البطل الأضحوكة..!

البطل الأضحوكة..!

د. أحمد عبدالعال عمر
09:00 م الأحد 07 يناير 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

"تأملات حول دون كيشوت"، هو عنوان كتاب مهم للفيلسوف الإسباني المعاصر "خوسيه أورتيجا أي جاسيت".

يدور الكتاب حول علاقة الإنسان المشغول بفكرة البطولة بالبيئة المحيطة به، فالبطل "دون كيشوت" كما صوره الأديب الإسباني "ميغيل دي ثيربانتس"، في روايته التي حملت عنوان "النبيل البارع دون كيشوت دالامنتشا"، هو رجل ضللته قراءة كتب البطولة والفروسية، فتشبع بالقيم النبيلة التي تحتوي عليها، وخرج ممتطيًا صهوة جواده، برفقه مساعده، حاملا رمحه الفلاح البسيط "سانشو بانثا" ليصنع مجده الشخصي، وليواجه العمالقة، وينتصر عليهم.

ولكنه يعيش في عصر قد خلا من العمالقة التي تحدثت عنها كتب القدماء، ولم يعد في بيئته المحيطة من كائنات ضخمة سوى طواحين الهواء. ومع ذلك فقد أصر على ممارسة دور الفارس النبيل، وخداع ذاته ورفيقه، ومصارعة طواحين الهواء بوصفها عمالقة، في معركة صفرية لم تؤدِ به إلى شيء.

وصديقنا "دون كيشوت"، رغم سمو غايته ومثله، هو إنسان ساذج مُغيب، ضللته حكايات الأبطال وأوهام الرومانسية الثورية، ولهذا فهو يخوض المعركة الخطأ مع العدو الخطأ في الزمان الخطأ، بما جعل حكايته مهزلة إنسانية تثير الضحك والشفقة.

وأظن أن الخطأ التراجيدي الذي ارتكبه "دون كيشوت" فجعله مسخرة المحيطين به، أنه كان يملك تصورات زائفة عن ذاته وإمكاناته، وأنه لم يدرس بدقة ظروف ومقومات وعناصر بيئته، وموازين القوى فيها، ولم يستوعب متغيرات عصره، ولم يفهم أن زمن الفروسية القديم قد ذهب إلى غير رجعة، وأن آليات الصراع وشكل العدو قد اختلفا. وأن تصميمه على خوض معارك عصره بآليات وتصورات عصر سابق لن يؤدي به إلى فعل بطولي أو إنجاز فعلي على أرض الواقع، بل سيجعل منه أضحوكة واقعه وعصره.

وعلى النقيض من فعل وسلوك "دون كيشوت البطل الأضحوكة" رغم نبل مثله وصدق نواياه، وحُسن مقاصده، نجد "إنسانًا وبطلًا" تميز بالدهاء الشديد، وشمول الرؤية، وبراعة التخطيط والتكتيك، وهو البطل اليوناني "أوديسيوس" الذي سجل لنا حياته ورحلته وبطولاته الشاعر اليوناني "هوميروس" في ملحمتة الشعرية "الأوديسة".

وفي تلك الملحمة نقرأ أن "أوديسيوس" في طريق عودته لمدينته "إيثاكا" بعد انتهاء "حرب طروادة"، قد تم أسره في جزيرة للعمالقة في وسط البحر. ونراه يدخل في حوار مع أحد العملاقة المكلفين بحراسته، ويقنعه أن اسمه" لا أحد أو لا شيء"، لكي يُوهمه أنه إنسان نكرة وضعيف، فلا يَحتاط كثيرًا له، ويُحكم قبضته عليه.

وينجح "أوديسيوس" بدهائه المعهود في خداع " العملاق" والهروب منه، بعد أن قام بضربه برمح في إحدى عينيه، وجعله يتخبط، ويترنح دون أن ينجح رغم قوته في الإمساك به.

وعندئذ ذهب العملاق إلى جماعته، ينتحب، ويصرخ، ويطالبهم بالانتقام من المجرم الذي فعل به ذلك؟ وكلما سألوه عن اسم هذا الشخص، صرخ في وجوههم: "لا شيء لا أحد". فقال أهله إنه فقد عقله، فكيف للا شيء أو لا أحد أن يفعل به ذلك؟!

وبهذا كُتب للبطل "أدويسيوس" بفضل ذكائه ودهائه التحرر من سجنه في جزيره العمالقة، وأن يهرب منهم دون أن يسعوا خلفه للثأر لرجلهم الذي فقأ أوديسيوس عينه.

في النهاية، لنتأمل قليلًا في حكايتي البطل الإسباني الأضحوكة "دون كيشوت" والبطل اليوناني " أوديسيوس"، لنتعلم ولنعرف الفارق بين الإنسان الذي لا يفعل شيئًا ذا قيمة في حياته، ومع ذلك يظن أنه فارس عظيم، لا يساويه أحد في مجده وعمله، فيجعل من نفسه أضحوكة، وبين الإنسان الذي يقوم بأعظم الأعمال بذكاء وحسن تخطيط، وهو يقول إنه "لا أحد ولا شيء"، فيصبح بذلك موضع احترام وتقدير الجميع.

إعلان