إعلان

ألعاب الطريق

ألعاب الطريق

د. هشام عطية عبد المقصود
09:00 م الجمعة 13 أكتوبر 2017

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

ينظر إلى ساعته، مضت ثلاث وتسعون دقيقة وهو على هذا الطريق اليومي، ولا زال هناك متسع من الوقت لا يعرفه، وحيث لا نهاية وشيكة تبدو، في المرات الأولى القديمة سيكون الانشغال بالنظر إلى المباني والمحلات، ثم يصير بعد ذلك كله ككتاب المحفوظات، وعليه بعدها أن يبدأ في اختراع الألعاب المسلية، أن يتحدى نفسه بأنه سيصل إلى ذلك المبنى الذي يبدو في الأمام، هناك على جانب الطريق وبعد دقيقتين، ثم يختار هدفًا آخر تاليًا، تلك الشجرة الكبيرة التي تلي المبنى، وبعدها تلك اللافتة، وهكذا يمضي حتى تفاجئه الطرق بانتهائها وصولًا إلى مقصده.

سيقول هذا صباح مكرر إذًا، وأنه زحام العرض الموسمي لتوقيتات دخول المدارس، يرى العربات تتراص في صفوف تمتد كديدان ملتوية بلا ذيل يراه ليعلن قرب انتهائها، يحذر نفسه من محاولة السير في طرق أخرى، فكل هؤلاء الذين إلى جواره يفكرون في ذات الأمر، يحفز نفسه: كن أذكى ولا تهتم، ليس في الأمر عبقرية ما مفاجئة بل هي صورة التجربة تظهر أمامه كشاشة تُعرفه بكل تلك المحاولات الفاشلة التي سبقت، سيكون ذكيًّا ويستسلم مسترخيًا للزحام المنظم في الشارع الكبير الذى يعرفه، وسيترك للمبتدئين والهواة أن يبحثوا عن شارع جانبي موازٍ وسينتهي بهم الطريق حتمًا – لو منحهم الحظ دورته – هنا وإلى جواره، سيتمنى لهم متعة التحلي بأمل التجربة، ويقول لا بل سأكون أكثر طيبة وعندما ينظر أحدهم نحوي سأعرض صورة خبرتي على ملامحي فليقرأ إن شاء.

الأغلبية منشغلة في طوابير الانتظار بالحديث أو النظر في الهواتف المحمولة، يفكر: ربما لهذا السبب اخترعوا هاتف السيارة ثم الهاتف المحمول، يتذكر نظرية التحدي والاستجابة ويستريح لها كتفسير حاسم للأمر.

صار لزاما عليه أن يصنع لعبة الوقت الجديدة، مثلا أن يخمن تلك الأحاديث التي تجرى عبر الهواتف في السيارات التي تتحرك ببطء جم إلى جواره، سيحترف ذلك عبر الوقت وتثمر نتائجه، ويعرف أن هذا الشخص ستبتهج ملامحه بشكل أكبر بعد تلك الابتسامة الأولى العابرة وفعلًا يحدث، وهذه مكالمة حتمًا قصيرة فالحياد في الوجه يعلن قرب انتهائها، وهذه محاورة ممتعة يكاد يسمع فيها صوت الموسيقى وستمضي بلا توقف على طول الطريق.

يبحث عن طريقة قادمة لمعرفة أفكار من يطيلون النظر في هواتفهم وهم يقرأون أو يكتبون أشياء داخل هذا الزحام، وسيفسر كل ذلك على نحو كهذا: يمنح الزحام البشر إحساسا داخل السيارات بأنهم فرادى في مواجهة اللا شيء فيستجيبون لفطرة الحياة بالكلام، نعم كان آدم وجاءت حواء فجاء الكلام إلى العالم وصار وسيلتهما أيضا في الحياة ثم منحاه للأبناء طبيعة ليستمر طقسًا ملازمًا.

يتمنى لو أن لديه مفكرة صوتية تسجل ما تزدحم به رأسه في الطريق، ويقول: سيكون ذلك اختراعًا مهمًا لا شك، ثم يضيف له اختراع استحضار من يريد الشخص أن يتحدث معه في الطريق ولو طال غيابه وبعدت أرضه، ذاكرة افتراضية تشكل الأشخاص وفق ما نريد تمامًا، ويطلق عليه اختراع التفاعل العقلي الافتراضي ويفكر أن يسجله باسمه، يرى الاسم طويلًا وربما له جمود علمي، فليكن مثلا “ Virtual Mind Talk” يكرر الاسم فيعجبه ويستقر عليه.

فورا يفكر في صورة أول من سيكون حضوره بهيًا عذبًا في اختراعه الجديد، فلا بد حقاً أن يكون الافتتاح مؤثرًا، لا ينتظر كثيرًا ويقفز إلى ذهنه طعم كوب عصير برتقال حامض قليلًا في زمن ما.

في الطريق الطويل البطيء يكون شبيهًا بمن يستأنس حيوانًا وحشيًا، يدربه ويطعمه ويعلمه طبيعة صوته وبصمته وكيف يستجيب له، ثم يجعله مع الوقت ينفذ من خلال الأطواق البلاستيكية.

يأخذ رشفة متعجلة من إناء الشاي المُغطى بإحكام ويعود إلى الطريق متسليًا باكتشاف أحاديث صامتة تجري أحيانًا عبر زجاج النوافذ، صار يمكنه عبر الوقت أن يتقبل الصداقات السريعة التي تتشكل على طول الطريق، يسميهم الأصدقاء المتجددين، حين تتوازى سيارتان، ويطلب أحدهما ولاعة مثلا، ثم يبدأ كلامًا موجزًا ينتهي سريعًا بشكر وتلويح، ما ألذ تلك الصداقات العابرة على الطريق الطويل، بلا تبعات.
صار يعتاد ذلك ويتقبله ودودًا، وسيرد بالشكر والابتسام على نصيحة تطالبه بإطفاء نور المصابيح الأمامية الصغيرة التي تركها سهوا مضاءة.

يبدأ في تشغيل إذاعة الأغاني ثم النظر في ساعة السيارة منتظرا صوت فيروز في التاسعة، وبحركة محببة تتم تعلية مؤشر الصوت، “بعدك على بالي” يحرك يديه قليلًا كأنما يعيد توزيع آلات الموسيقى وفق ما يحب، فجأة ينفتح الطريق بلا سبب وتتسارع السيارات وتنطلق معها الأبواق تطلب الإفساح.

بضع دقائق قليلة وتعود السيارات لتتقارب إلى جوار بعضها وتسير في توازيات ممتدة، ينظر إلى جانبي الطريق حيث تتوزع اللافتات الملونة، هذه تعلن عن حفل غنائي كبير، وتلك تحدد موعد افتتاح مطعم أسماك، ولافتة أخرى تتكرر تقول إنك مهما حسبتها ستجدها دومًا في مصلحتك، يقطع تتابع اللافتات صوت يخاطبه، ينظر فيقابل وجهًا ملتفتًا نحوه، يعلو الصوت قليلًا مهذبًا وهو يشير إلى زجاجة الماء التي إلى الجوار، يمد يده بها نحو جار الطريق مبتسمًا ويمضي.

إعلان