إعلان

كيف دمر الاحتلال البنية التحتية في غزة بعد حرب الـ11 يوما؟ (تقرير بيانات)

08:02 م السبت 22 مايو 2021

تطبيق مصراوي

لرؤيــــه أصدق للأحــــداث

- مارينا ميلاد:

ذاك هو النهار الثاني الذي يمر على عُلا، من دون أن تسمع صوت قصفٍ ظل مُصاحبا لأذان الفجر طيلة 11يومًا مضت. الليلة الثانية التي تنامها هي وأسرتها جيدًا. فلا تخفي الفتاة الساكنة وسط غزة فرحتها بالهدنة المتفق عليها بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي. لكن الحرب دائمًا ما تولد المشاعر المختلطة، مثلما تترك أثرها على الخاسر والرابح معًا.

ما زالت تخشى عُلا صالح من أن تستأنف حياتها مجددًا، وتنزل إلى الشارع؛ فلا شيء في المدينة ظل على حاله: "لن أتحمل أن أمر على بيت عائلتي الذي تهدم فوقهم وعلى شوارع الوحدة والرمال وتل الهواء، وأراها مدمرة بالكامل وبها كل ذكرياتي".

بإحصاء الأرقام الرسمية ورصد الأماكن التي تعرضت للاستهداف، لم تكن هذه الحرب على مواقع عسكرية فحسب، إنما على شوارع تحمل ذكريات عُلا وغيرها، وعلى مساكن سكنتها أسر عادية، كعائلة عُلا، وعلى أراضٍ زراعية ومصانع وخطوط مياه وكهرباء، أو كما وصفها مدير عام الدفاع المدني بأنها "على البنية التحتية لغزة بأكملها".

بداية هذا الشهر، حينما جرت أحداث حي الشيخ جراح بالقدس، واحتدمت الاشتباكات رفضًا لإخلاء بيوت أسر فلسطينية بالحي؛ التفتت عُلا إلى هتاف الشباب: "مشان الله يا غزة يلّا"؛ ورغم صغر سنها فالأحداث علمتها أن المقاومة الفلسطينية حتمًا سترد، وهو رد غير معلوم نتائجه.

بالنسبة للضابط محمود صابر، وهو أحد أفراد الدفاع المدني في غزة، فهذا يعني- حسب قوله- أنهم "سيواجهون استهدافا شديدا، وسيكون من نصيب المدنيين".

محمود الذي يبلغ الـ34 عاما ودرس القانون يعمل في جهاز الدفاع المدني منذ عام 2007؛ ما جعله يعايش حروب غزة الثلاث التي قفزت مشاهدها إلى رأسه مع تلك الأحداث: يوم استُهدفت مقراتهم عام 2008 ونجا بأعجوبة من تحت الأنقاض، ويوم قتل زملاؤه أمامه بعدها بـ6 سنوات لاستهداف سياراتهم في منطقة الشجاعية، ومنعت القوات الإسرائيلية وصولهم للإسعاف.

عاد محمود بذهنه إلى اللحظة الحالية مجددًا، والتي عليه فيها التأهب إلى حرب جديدة؛ لا يعلم مدى قسوتها، وما إذا كانت ستراكم مشاهد جديدة في ذاكرته.

ليلة العاشر من مايو كانت عُلا ما زالت تتابع أحداث "الشيخ جراح" وما يحدث في القدس، ثم انتبهت إلى أخبار ومنشورات عبر "فيسبوك" ببدء الغارات على غزة التي لم تكن وصلت إلى منطقتهم بعد: "أول ليلة كانت صعبة جدًا.. كنا مستيقظين طوال الليل، لا نفعل سوى متابعة الأخبار ومعرفة المناطق التي بدأ القصف بها، وإذا كنا نعرف أناسا هناك أم لا؛ لنطمئن عليهم".

غلب النوم والدي عُلا وإخوتها الثلاثة بعد الساعة الخامسة والنصف فجرًا حتى استيقظوا على صوت قصف تواصل حتى الثامنة صباحًا، معلنًا أنه قد وصل إلى وسط غزة: "تجمعنا في الغرفة نفسها.. جميعنا كنا خائفين ونحاول تسلية بعض بالحديث فقط".

جاءت التعليمات للضابط محمود بالتوزيعات الخاصة بهم وفقًا لنظام الطوارئ، الذي يعتمد على انتشارهم بالسيارات على المفترقات الرئيسية لتغطية أكبر مساحة وسهولة الوصول لمكان القصف وخوفا من استهدافهم أثناء الخروج من المواقع- وفقا لقوله.

خرج محمود من بيته خائفًا من ألا يعود إلى زوجته وأطفاله أو أن يعود ولا يجدهم. ظل يكرر عليهم ضرورة الاختباء في أماكن محصنة بالبيت: "أبنائي يصيبهم الرعب، ويبكون كلما سمعوا صوت الطائرات. لا أريد أن أذهب وأتركهم لكن هذه أمانة".

خريطة أبرز المناطق التي شهدت قصفا إسرائيليا - - وفقا للبيانات التي خرجت من مديرية الدفاع المدني في غزة

في الصباح اضطر محمود صالح، والد عُلا، لأن يذهب إلى السوق ليشتري احتياجاتهم. نزل إلى أقرب مكان لشراء الضروريات فقط والعودة بسرعة. تقول أسرة صالح "إنهم في الحروب السابقة كانوا يشترون كميات كبيرة لتخزينها؛ خاصة إذا عُقدت هدنة مؤقتة، لكن هذه المرة سيكتفون بالأساسيات على أمل أن تصح أخبار الاتفاق على إنهاء الحرب قريبًا".

بينما يشتري الأب متطلبات بيته كان الطيران الإسرائيلي يقصف أبراجًا شاهقة وسط غزة، وهو ما جعل أسرته ترتعد رعبًا عليه، وتحاول أن تبقى معه على الهاتف، لكن شبكة الاتصالات لم تسعفهم مرات كثيرة.

في هذا الوقت تحرك الضابط محمود على أحد الأبراج التي تم قصفها وهو مهموم أكثر؛ "كان استهداف الأبراج أكثر ما يعيق عملنا لعدم وجود إمكانيات كافية.. نحن لم نملك سوى سلم هيدروليكي واحد، ولا يوجد معدات تساعد على الإنقاذ من تحت الإنقاض نتيجة منعها من دخول غزة".

أمام محمود ردم كثير يحجب الأشخاص الواقعين أسفل الأنقاض. صوتهم وصراخهم فقط الذي يصل إليه: "شعور صعب جدًا أن أحاول تهدئتهم وفي نفس الوقت أعمل على إنقاذهم بإمكانيات ضعيفة ومحدودة". لذا دعا اللواء زهير شاهين، مدير عام الدفاع المدني، كلا من مصر والأردن لإدخال طواقم إنقاذ لغزة: "نحن لم يتبق لنا سوى أدوات ومركبات متهالكة لم تواكب ما يحدث حاليًا".

1
عاد والد عُلا إلى البيت. وكان أمامهم حوالي 3 ساعات فقط ليفعلوا كل شيء يحتاج منهم إلى كهرباء قبل انقطاعها، الأمر الذي اعتادوا أنه يكون غير طبيعي منذ عام 2008. تقول عُلا: "منذ هذا التاريخ ولم يأتِ إلينا كهرباء لمدة 24 ساعة كاملة.. تصل إلى 8 ساعات وأحيانا 6 والآن 3 أو 4 على الأكثر".

بإقتراب ساعات الليل يعلو الخوف أكثر وأكثر. يسأل الجميع أنفسهم: كيف ستمر تلك الليلة؟ هل سيحل علينا الصباح؟ يُجهز والد عُلا حقيبة "الطوارئ" بها كل أوراقهم المُهمة ويضعها بجانب الباب.

لا تجد عُلا أساليب واضحة لحماية أنفسهم: "يمكن أن نكون هدفهم في هذه الليلة ولا نعلم!"، وكل ما استطاعوا فعله هو معرفة ما يقصف من البيوت القرية منهم، فيحتمون بأبعد غرفة عن هذا الاتجاه.

تحكي عُلا أيضًا عن نساء تنام بإسدالات الصلاة، ليخرجن مسرعات إن تم قصف بيوتهن. كل هذه التفاصيل لم تجعلها تنام أكثر من 3 ساعات متقطعة في اليوم كله، ثم تستيقظ على صوت القصف؛ يغلقون الشبابيك ويرتدون "الكمامات" بسبب رائحة غاز تملأ الجو: "لا نعرف بالظبط نوع الغاز؛ لكن كنا نختنق منه".

تكرر الأمر نفسه ليلة بعد الأخرى، ولم تستطع الطالبة في الشهادة الثانوية، المذاكرة استعدادًا لامتحاناتها المقبلة بعد شهر واحد، كذلك شقيقاها (15 سنة و9 سنوات)؛ فلم يمكنهما الاطلاع على دروسهما عبر الإنترنت: "كانت نفسيتنا سيئة جدا.. لا يمكن أن نفصل أنفسنا عما يحدث خارج البيت"؛ وبخاصة أخوها الأصغر أحمد الذي ستسوء حالته أكثر لاحقًا.

كانت الأيام شاقة على الضابط محمود. زادت المشاهد المؤلمة التي يسجلها مع كل حرب؛ خاصة بعد ما حدث لأحد زملائه، ويدعى حسن العطار، الذي ذهب للمهمة الأسوأ في حياته عندما انتشل جسد ابنته وأطفالها الثلاثة من تحت ركام منزلهم.
جرى محمود على بيته وأسرته التي لم يرها إلا قليلا ليطمأن عليها: "كل البيوت مهددة.. تخيلي معي منزل مكون من 3 طوابق يتم قصفه بصاروح يتجاوز وزن الطن، هل تتوقعين كم الآثار التي من الممكن أن تؤثر على المنازل المجاورة"؟!

اعتذر محمود أكثر من مرة عن عدم تكملة حديثه لتجدد الغارات، مع الوعد بالعودة في وقت لاحق إن ظل حيًا.

حَل اليوم الأسوأ على "آل صالح"، عندما تم قصف ٣ بيوت في شارع الوحدة، وفي واحدة منهم يسكن جزء من عائلتهم. تقول عُلا: "قُتلت ابنة خالة والدتي وأبناؤها الصغار ولم يتبق إلا واحد منهم عمره 11 سنة". هؤلاء الأطفال هم أصدقاء أخيها الأصغر "أحمد" الذي أخفوا عنه الخبر حتى الصباح.

أبلغوه بأنهم وجدوا تحت الأنقاض "عزيز" صديقه؛ لكن صور الحرب لم تعد محصورة في مكانها على الأرض إنما تجد لها سبيلا لتنتشر في كل مكان. بمجرد أن فتح "أحمد" حسابه على "فيسبوك"؛ فقال لوالدته: "ليه مقولتليش إن عزيز أهله استشهدوا"؟!

ثم وجدت عُلا أن أول رد فعل له هو فتح برنامج "الرسام" على جهازه ورسمه لعلم فلسطين. لم تفهم ما بداخل أخيها؛ لكنها تعرف أنه صار يتوقع أن يلاقوا نفس مصير أسرة عزيز.

لا تترك عُلا أخاها لحظة واحدة منذ هذا الوقت. تتذكر عندما كانت بعمره في حرب غزة الثانية عام 2012، وأنهم خرجوا من بيتهم مرتين. فتعيد عليه حديث والديها: "يقولوا لنا في كل مرة هؤلاء شهداء ونحن في جهاد إلى يوم الدين".
وسط ذلك لم تنسَ عُلا أن تشارك صورًا لأفراد الدفاع المدني وما فعلوه بشارع الوحدة: "هؤلاء فعلا جنود المعركة".

بعدما ينتهي الضابط محمود من أداء عمله مع رفاقه وإنقاذ ما يمكنه إنقاذه، يحاول استيعاب ما يحدث: "ما نراه اليوم شكل صدمة كبيرة لنا.. حجم دمار مهول.. عائلات بأكملها تم قتلها ومسحت من السجل المدني.. أسر ربما لم يتبق منها سوى طفل واحد أو أب كان بالصدفة خارج المنزل".

مع انتشار أخبار الهدنة برعاية مصرية، وأنها باتت قريبة من التنفيذ؛ كان الكل مترقبًا ومنهم عُلا التي ظلت تسمع بين الحين والآخر معلومات متضاربة حتى تأكد الخبر، وجاءت الساعة 2 صباحا، وتبدل صوت القصف بأصوات التكبير والتهليل: "لم أصدق أن الأمر انتهي، وأننا ما زالنا أحياء. وظللنا نعد الساعات التي تمر من دون قصف".

شعرت عُلا بفرحة تكبيرات العيد في تلك الليلة؛ لكنها لم تعرف إلى أين يمكنهم الذهاب أو التنزة بعد كل ذلك: "كل الأماكن أصبحت مُدمرة".

أنتهت الحرب أو بمعنى أدق "انتهت الجولة هذه المرة". بينما لم تنته آثارها على أرض الواقع. ما زال الضابط محمود فيما سماه "حالة استنفار حتى يتم الانتهاء من آثار الحرب"؛ فدوره مستمر في انتشال ما تبقي من جثث تحت الأنقاض خاصة في المناطق التي كان يمنع فيها الاحتلال دخول طواقم الاسعاف والإنقاذ، إلى جانب الأحداث الطارئة التي قد تحدث نتيجة محاولة ترميم وإزالة مخلفات ما حدث.

على الناحية الأخرى من دور الدفاع المدني؛ يطالب يحيى السراج، رئيس بلدية غزة، في تصريحات تلفزيونية له، بتوفير المواد والوقود اللازم لإعادة إصلاح خطوط المياة والصرف الصحي لمنع حدوث كارثة صحية وبيئية، والسماح بنقل النفايات الصلبة؛ حيث يمنع الإحتلال الوصول إلى مكب النفايات الرئيسي، وقد اعتبرها منطقة عسكرية مغلقة. وفي الوقت نفسه، يسارع الشباب لتسجيل أسمائهم عند البلدية وتقسيم أنفسهم حسب أماكن السكن لتنظيف الشوارع وإصلاح ما يمكنهم إصلاحه.

تتابع عُلا: "مجرد رفع آثار الدمار ليس إعادة الإعمار التي تأخذ وقتا طويلا"، لكن لم يتسع وقتها للمشاركة لقرب امتحاناتها.

رغم كل شيء؛ تشعر عُلا وغيرها بالانتصار لما تقول إنه بسبب "صواريخ المقاومة التي وصلت للداخل الإسرائيلي": "هونت على الناس.. الجميع هنا يعترف بذلك".

يمكن لعُلا، التي عاشت أربع حروب في مدينتها خلال 18 عاما فقط من عمرها على هذه الأرض- أن تترك غزة بسهولة وتأتي مع أهلها إلى مصر التي يحملون جنسيتها، ويعيش فيها ثلاثة من إخوتها؛ لكن ذلك لم يحدث حتى في أشد لحظاتهم قسوة، ولم يخطر ببالهم كفكرة. السبب المعتاد في تلك القصص هو تمسك الآباء ببيتهم وأرضهم؛ لكن المسألة عند عُلا تنبع من داخلها، كذلك أشقاؤها: "كل ما في الأمر ببساطة هو أننا رأينا في كل من حولنا أن المغترب الذي يترك أهله وذكرياته ويرحل سيكون شعوره أصعب مما نعيشه ونحن هنا".

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان