حكاية الخواجة "ألدو".. ترك عائلته في إيطاليا ليقضي العيد في الإسكندرية

11:18 م الإثنين 31 ديسمبر 2018

ألدو جاك برمبالي

كتبت- مارينا ميلاد:

تصوير- مارينا ميلاد

مبنى على الطراز الأوروبي يلفت النظر إليه كالمعتاد من مباني الإسكندرية. يشير من داخله رجل مبتسم، ملقيًا السلام على المارين في الخارج، فيأخذ النظر إليه. مشهد الرجل العجوز الذي يقف ممسكًا العكاز، ويمزح بلغة عربية ركيكة مختلطة بكلمات إيطالية مع كل من يمر بجانبه، كان أكثر إثارة للفضول.

تخبرنا بطاقة رقم قومي مصرية حديثة في محفظته أنه يحمل اسما ليس مصريًا بالمرة وهو "ألدو جاك برمبالي"، وأن عمره 77 عامًا، وعنوانه محطة الرمل – الإسكندرية. المعلومة الأخيرة تشير إلى ذلك المبنى، وهو دار "بيليز أوزهايم" الألماني لرعاية المسنين. ألدو هو أحد نزلائه ومعه أجانب من الألمان واليونانيين والإيطاليين. أغلب ساكني هذا المكان يعيشون بمفردهم بعد أن غادرت عائلاتهم الإسكندرية. لكن ألدو عكسهم تماما، فهو ليس نزيلًا دائمًا مثلهم إنما يعيش مع عائلته في إيطاليا، وهو الذي غادرهم مؤخرًا ليقضي أيام العيد هذا العام بمفرده في موطنه الأول.

ولد ألدو بشارع علوي بمنطقة باكوس عام 1942 لأب مصري كان يعمل مديرًا لإنتاج شركة "كبريت النيل" السويدية، ولأم إيطالية كانت سيدة منزل، وله أخ وأخت. 

حصل على بطولة المصارعة الحرة عام 1960، التي تدرب عليها في نادي "ستيليو بلندريدس" اليوناني بالإسكندرية، وما زال يحتفظ حتى الآن بميدالية البطولة والصحف التي كتبت عنه آنذاك. 

ألدو ليس فقط مزيجًا مصريا إيطاليًا إنما زاد على شخصيته "المختلفة" بعدًا آخر فرنساويا بعد أن درس في مدارس سان جوزيف ثم سان مارك بالإسكندرية. 

"عندما عملت في مستشفى بإيطاليا، كنت أسعف الشخص وليس لي علاقة بديانته أو لونه أو جنسه، وهو ما تربيت عليه في باكوس. كان لي أصدقاء بالمدرسة وفي الشارع مصريون وأجانب، مسلمون ومسيحيون ويهود، لم نكن نسأل عن ديانة أو جنسية أحد. المهم هو الشخص نفسه"..

بعد أن أنهى ألدو مدرسته بمصر، سافر إلى فرنسا لدراسة المحاسبة وحصل على شهادة ماجستير. أراد بعدها أن يمر على عائلته التي كانت قد غادرت كلها إلى إيطاليا ثم يعود فورًا إلى مصر، لكن زوج أخته غَير خططه تمامًا. ذلك عندما عرض عليه عرضًا لم يستطع رفضه، وهو العمل محاسبًا لصالح أحد فنادق روما الكبرى. بقي ألدو في روما وعمل بعد ثلاث سنوات من عمله بالفندق في خدمة الطوارئ بأحد المستشفيات. هكذا استمر حاله 42 عامًا، قطعها خدمته بالجيش الإيطالي ضابطًا لمدة عامين.

خرج إلى المعاش وترك كل ذلك، فذهب إلى اتجاه مختلف، جذبه إليه اهتمامه بقراءة ودراسة علم النفس وعلم الاجتماع، فأسس مكتبًا يشبه عيادة خاصة مع طبيبة صديقة له لتقديم استشارات العلاقات الجنسية.

شَغل عقل ألدو في تلك السنوات الكثير. أحب الكتابة، فحصل على تصريح يشبه التصريح الصحفي لحضور جلسات البرلمان الإيطالي ليكتب مقالات رأي للصحف بشكل حر، اهتم بالسياسة الإيطالية، فخرج في مظاهرات للمطالبة بإصدار قانون يحمي حقوق المرأة التي كانت تعمل نفس عدد الساعات ولا تحصل على راتب عادل مقارنة بالرجل، وغواه الشعر، فظل حتى اللحظة هو متنفسه، حيث إن غرفة ألدو تمتلئ بأجندات سَطر في صفحاتها أشعارًا رومانسية بلغاته الثلاث (الإيطالية، الإنجليزية، الفرنسية).

كان ألدو مقربًا من المصريين دائمًا حتى في إيطاليا. يلقبونه بـ"عم عباس"، يضحك ويقول: "لا أعرف سبب هذا الاسم، أحدهم قاله لأن (ألدو) اسم منتشر هناك، والباقي قالوه من بعده". هذه العلاقة جعلت ألدو في فترة ما صديقاً مقربًا من محمدٍ، الإمام الراحل لأكبر المساجد في روما، اشترط عليه أن يكون هو أول شخصٍ يدخل معه افتتاح المسجد الجديد، وهو ما حدث بالفعل. يتذكر ذلك اليوم ويحكي كم حَزن وبكى عند وفاة هذا الإمام.

لم يتخلَ ألدو عن الإسكندرية منذ عام 1988، داوم على المجيء كل عام سواء بمفرده أو مع والده أولاده - التي لم يتزوجها حتى الآن - أو أحد أبنائه الثلاثة (إريني، جاك، عايدة). يحدث أبناءه العربية أحيانًا في إيطاليا خاصة بعد أن اهتم ابنه جاك بدراسة اللغة العربية في جامعة القاهرة.

دار المسنين الألماني هي المكان الذي يفضله ألدو وعائلته عند مجيئهم إلى الإسكندرية: "أحب هنا أن شبابًا يأتي ليزوروا المسنين ويسألوا عنهم، أحب أن أتحدث معهم وأساعدهم. هذا لا يوجد في إيطاليا، ولا العائلة نفسها تأتي لزيارة قريبها بأي دار، الكل ينشغل في حياته وعمله فقط".

من يلتق ألدو يدرك أن هذا الرجل مختلف عمن حوله، لا يحب الجلوس في مكان واحد كعادة المحيطين به، يمرح كثيرًا، وهو ما يثير تحفظ الراهبات اللاتي يرعين نزلاء الدار، لكنه لم يكترث، فاعتادوا عليه كذلك: ألدو الحر الذي لا يهدأ ولا يخشى أحد.

يخرج ألدو كل صباح ليتناول إفطاره وقهوته في "تريانون"، وهو أحد مطاعم الإسكندرية القديمة، ويبعد مسافة قليلة عن الدار. يعرفه أصحاب المحال التي يمر عليها، كما يعرفه جيدًا العاملون بذلك المطعم، ويتبادلون معه النكات. ثم يسير بعده على البحر، يتذكر كم كان يحب السير على كورنيش منطقة سان ستيفانو، لكن يراها الآن تغيرت كثيرًا، يتذكر أيضًا المكان الذي كان أخوه يذهب إليه ويجلس ساعات ليصطاد قبل أن يسافر إلى إيطاليا.

"مصر أحسن بلد وأفضل من إيطاليا وناسها طيبين. لكن فيه منهم لم يحبوها ولم يحافظوا عليها"

في مثل هذه الأيام كانت عائلة ألدو تتجمع في الفيلا الخاصة بهم في باكوس قبل أن يهدها الحي عام 1964 لتُبنى مكانها عقارات جديدة، تصنع والدته الحلوى، يزينون البيت، يستمعون لأغنيات إيطالية أو فرنسية، وهو الفعل الذي يشبه حفل أول سبت في الشهر. لكن ألدو رغم شخصيته المرحة لم يحب الصخب والاحتفالات، لذلك لم يحصل على إجازة الكريسماس في إيطاليا طوال سنوات عمله: "أولوياتي في أيام العيد كانت مساعدة الناس في المستشفى الذي كنت أعمل به. لم أفكر في احتفال أو إجازة. أتذكر أنني احتفلت مرة واحدة بعد أن أصبح لي أحفاد".

لكن هذا العام، قرر ألدو أن يعود إلى محبوبته الأولى كما يصفها حتى لو تغيرت كثيرًا عن صورتها في الماضي. يصنع لنفسه عالمًا خاصًا داخل غرفته بدار المسنين، تعبر تفاصيله عن شخصية ألدو واهتماماته، فهنا ماكينة صنع القهوة، التليفزيون، اللاب توب، وكتب بالإيطالية عن مصر، وفي الأدراج صحف قديمة تحكي عن بطل المصارعة الحرة، وألبوم صور يأخذ من يتفحصه إلى الإسكندرية في زمان آخر. 

تتجمع كل الأشياء معًا لتجيب "لماذا جاء ألدو ليقضي عيده هنا"؟ 

"هذا الجو والهدوء وهؤلاء الناس لم أجدهم في إيطاليا، لذلك أنا هنا وسعيد ولا أريد أن أعود الآن".

 

إعلان