إعلان

في ذكرى مولده .. جمال حمدان يزداد حضورا وتوهجا

11:21 ص السبت 02 فبراير 2013

تطبيق مصراوي

لرؤيــــه أصدق للأحــــداث

القاهرة - أ ش أ:

قبل ساعات معدودة من حلول الذكرى الخامسة والثمانين لمولد المثقف الوطني والمفكر الاستراتيجي الراحل جمال حمدان، لابد وأن يكون الاحتفال بالحضور وليس بالغياب، بل ويمكن القول دون تزيد، أن مثقفا فى حجم وقيمة وقامة جمال حمدان، لا يزيده الموت إلا توهجا فى الذاكرة الثقافية المصرية، ولن يزيده الغياب سوى المزيد من الحضور في وعي أجيال تلو أجيال من المصريين وضمير بلاده ووجدان أمته.

ولعل ماحدث فى الدورة الحالية لمعرض القاهرة الدولى للكتاب عندما حظى العمل الفكرى الرائد لجمال حمدان "شخصية مصر" بإقبال منقطع النظير من رواد المعرض وخاصة من الشباب، مجرد إشارة من إشارات عديدة دالة على حجم حضوره الثقافي في الحياة المصرية والعربية الراهنة، فيما كان قد أوضح فى مقدمة هذا السفر الموسوعي نظرته العميقة للجغرافيا، التى تخصص فيها ليقول انها "علم بمادتها وفن بمعالجتها وفلسفة بنظراتها".

وجمال حمدان الذى ولد يوم الرابع من فبراير عام 1928 قضى يوم السابع عشر من أبريل عام 1993 فى حريق غامض يرى البعض أنه لايخلو من شبهات اغتيال، خاصة مع اختفاء بعض أوراقه ومخطوطات كتب جديدة.

الدكتور جمال حمدان اسمه بالكامل جمال محمود صالح حمدان، هو من مواليد قرية "ناي" فى محافظة القليوبية، وعرف بأسلوبه الأدبي البديع، فيما حصل على الدكتوراه في فلسفة الجغرافيا من جامعة ريدنج البريطانية عام 1953، وكان موضوعها عن "سكان وسط الدلتا قديما وحديثا".

ولم يكن جمال حمدان مجرد عالم نابغ في الجغرافيا، وانما كان بحق النموذج الفذ للمفكر الاستراتيجي الوطني المصري، وأحد كبار المفكرين الاستراتيجيين فى العالم.

ويكاد المرء يشعر بالذهول من قدرة جمال حمدان على التوقع وبناء رؤى مستقبلية، لحد رسم سيناريو شبه كامل للعدوان الإسرائيلي على مصر وسوريا والأردن فى الخامس من يونيو عام 1967، بل أن يحدث هذا العدوان الكارثي النتائج بأكثر من عامين ونصف العام.

ففى عدد مجلة الهلال الصادر فى شهر نوفمبر عام 1964 وبعنوان "ماذا تعد إسرائيل عسكريا؟!" كتب جمال حمدان فى سياق الحديث حينئذ عن مشروع تحويل مجرى نهر الأردن،"ليس السؤال هل تهجم اسرائيل وانما هو متى وأين وكيف ؟!".

ويضع المفكر الاستراتيجى جمال حمدان الاحتمالات ويناقشها ويفاضل بينها ويقول :" إن الاحتمال الأول أن تبادر إسرائيل فتعجل بهجومها على أمل أن تسبق استعداد العرب عسكريا للمعركة، وبذلك تضمن فرصة أكبر للنصر" ، مضيفا:"أن إسرائيل ستحارب فى كل الجبهات فى نفس الوقت، وهذا تماما عكس كل استراتيجيتها التقليدية".

وفى هذا المقال غير العادي والذي كان يتوجب أن يحظى بكل الاهتمام من صانع القرارالسياسى - الاستراتيجي ايامئذ، تحدث جمال حمدان عن المبدأين الجوهريين فى الاستراتيجية الإسرائيلية وهما: "الهجوم والمباغتة"، موضحا أن أساس هذه الاستراتيجية ومايسمى بالحرب الوقائية هو الهجوم، وأن تفرض على العرب وضع الدفاع.

أما المباغتة - كما أوضح جمال حمدان - فهى الوجه الآخر لفلسفة الهجوم، مضيفا :"فالهجوم بغير عنصر المفاجأة يفقد صفته الأساسية كهجوم، وإسرائيل فى هذا تعتمد على قدرتها على التعبئة العامة بسرعة وهى تعلم أن حربها مع مصر خاصة لا يمكن إلا أن تكون حرب أيام او أسابيع فى آخر الأمر، ولهذا يجب أن تكون حربا صاعقة خاطفة".

ومضى الدكتور جمال حمدان فى طرحه ليقول :"ولهذا فإن من الضرورى أن تكون نقط المراقبة العربية بقظة ليلا ونهارا، كما انه لابد للعرب من القدرة على التعبئة العامة وتجييش الاحتياطي فى أقصر وقت".

وتابع قائلا :ونحن أميل إلى الظن بأن إسرائيل قد تبدأ هجومها على الجبهة المصرية"، فيما سيعنى تطبيق مبدأ المباغتة، "اختزال سيناء بمعنى أن تحولها إسرائيل إلى رصيد وعمق استراتيجي لها، قبل أن تلتحم بجسم القوات المصرية التحاما مباشرا".

وفيما أكد جمال حمدان فى طرحه هذا على ضرورة أن يفرض الطرف العربى المعركة على العدو داخل أرضه فقد شدد على أن دور الطيران يأتى فى المقدمة من العمليات الحربية، وقال :"ليس هناك حرب يمكن للسلاح الجوى أن يلعب فيها دورا أخطر من هذه الحرب"، وتابع إلحاحه فى هذا السياق بقوله:"من الضروري جدا أن تسيطر القوى العربية على سماء المعركة سيطرة كاملة".

ونوه حمدان بأن "هذه السيطرة ضرورية لتغطية سمائنا من خطر العدو"، وأشار إلى أن محاولة تسلل إسرائيلية فى الصيف الماضى فى سماء الأسكندرية والدلتا "لثبتت أن الرحلة فوق الفاصل البحرى هى مسألة دقائق".

هكذا وضع جمال حمدان الأحداث الجارية والظواهر الجزئية فى عام 1964 داخل سياق أعم وأشمل بأبعاد مستقبلية ليخلص لنتائج بالغة الدقة حول مشهد العدوان القادم عام 1967، غير أنه لم يجد من يقرأ كلماته ويدرك مدى خطورتها وأهميتها حينئذ! .

إنها القدرة الثاقبة للمثقف الوطني والمفكر الاستراتيجي جمال حمدان على استشراف المستقبل وتحذير أمته من مخاطر الآتى عبر الفهم العميق لمعطيات الجغرافيا ودروس التاريخ وحقائق الواقع والاقتصاد والسياسة، وكأنه يقدم المعادل الموضوعي المعرفي لما يسمى فى التراث العربي - الإسلامي "بزرقاء اليمامة".

ولم يتوقف الأمر عند هذه الرؤية المستقبلية والبالغة الأهمية والخطورة لعدوان الخامس من يونيو، وإنما كان جمال حمدان صاحب "الاستعمار والتحرير فى العالم العربي" و"استراتيجية الاستعمار والتحرير" قد حذر من إمكانية تفكك الاتحاد السوفيتي، ومنظومة دول حلف وارسو قبل سنوات طوال من هذا الحدث بكل نتائجه وتداعياته العالمية .
ومن أعماله الفكرية وكتبه العديدة:"دراسات فى العالم العربي"وبترول العرب" و"المدينة العربية" و"اليهود انثربولوجيا" و"6 أكتوبر فى الاستراتيجية العالمية" و"قناة السويس".

وهو الذى قام بأدواته البحثية المحكمة بتفكيك أساس المشروع الصهيوني فى فلسطين، عبر دحض الحجج الأنثربولوجية لهذا المشروع وإثبات بطلانها علميا ليخلص إلى أن إسرائيل ظاهرة استعمارية اغتصابية لاعلاقة لها بالأرض العربية سوى علاقة

الاحتلال، ومن ثم فهى مجرد ثكنة عسكرية يرتهن استمرارها بقوتها العسكرية ولغة الحديد والنار بمعزل عن أي بعد حضاري.

ويواصل المفكر الاستراتيجي جمال حمدان رحلته الثرية فى البحث والاستشراف المستقبلي ليؤكد بعد انهيار الاتحاد السوفيتى وسقوط منظومة حلف وارسو أن الغرب الذى يسعى دوما "لخلق العدو" سيصطنع لعبة صراع الحضارات وسيكون العالم الإسلامي هو العدو الجديد.

ألم يكن جمال حمدان صاحب "العالم الإسلامي المعاصر" و"أفريقيا الجديدة" في كل منجزه الثقافي هو المثقف الملتزم حقا بخدمة قضايا شعبه وامته؟! .

هذا هو جمال حمدان الذى اضطر عام 1963 للاستقالة من عمله كأستاذ مساعد ضمن هيئة التدريس بقسم الجغرافيا فى كلية الآداب بجامعة القاهرة، في صفحة حزينة من صفحات نوابغ ومبدعى الثقافة المصرية الذين تعرضوا لكثير من الكيد والظلم جراء الحقد على مواهبهم وقدراتهم الابداعية.

لكن جمال حمدان حول عزلته بعد الاستقالة من عمله الأكاديمي الرسمي إلي مايمكن وصفه "بالعزلة الإيجابية الخلاقة داخل صومعته المباركة" فى شقته المتواضعة الضيقة فكان جامعة بأكملها وهو ينتج أروع وأهم أعماله بعيدا عن صغائر الحياة وصغار بعض البشر.

صاحب الوجه النجيب العنيد المؤنس فى الحق :تحدث فنحن نسمعك ..تحرك وأشهر فكرك المتفرد: نحن نراك فمثلك لايموت ..ولسوف تلهمنا وتلهمنا فنستعصى على الهزيمة ونتابع خطاك، وإن ضاعت دروب ودروب.

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان