إعلان

نسيج السماء ذات الحبك

د. عبدالهادي مصباح

نسيج السماء ذات الحبك

د. عبدالهادي مصباح
07:44 م الخميس 11 يونيو 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

قال تعالى: ﴿وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾ [الذاريات:47]، وتشير هذه الآية إلى أن السماء قد بنيت بناءً محكمًا وبقوة، وأنها ليست عبارة عن فراغ كما كان يصفه العلماء ويسمونه فضاءً، وقد أشار المولى عز وجل إلى ذلك البناء المحكم في آيات أخرى، كقوله تعالى: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء﴾ [البقرة:22]، وقوله عز وجل: (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاء بِنَاء﴾ [غافر:64]، وقوله تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ﴾ [ق:6]، وقوله تعالى:﴿وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً﴾ [النبأ:12]، وقوله تعالى: ﴿أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا﴾ [النازعات:27]، وقوله تعالى: ﴿وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا﴾ [الشمس:5].

الاكتشافات العلمية تؤكد بناء السماء:

عندما بدأ العلماء باكتشاف الكون أطلقوا عليه كلمة space أي (فضاء)، وذلك لظنهم بأن الكون مليء بالفراغ، ولكن بعدما تطورت معرفتهم بالكون واستطاعوا رؤية بنيته بدقة مذهلة، ورأوا نسيجاً كونياً cosmic web محكماً ومترابطاً، بدأوا بإطلاق مصطلح جديد هو (بناء) أي building، فوجدوا أن السماء بناء محكم التشييد، دقيق التماسك والترابط، وليست فراغاً كما كان يعتقد إلى عهد قريب، وقد ثبت علمياً أن المسافات بين أجرام السماء مليئة بغلالة رقيقة جداً من الغازات التي يغلب عليها غاز الهيدروجين، وينتشر في هذه الغلالة الغازية بعض الجسيمات المتناهية في الصغر من المواد الصلبة، على هيئة غبار دقيق الحبيبات، يغلب على تركيبه ذرات من الكالسيوم، والصوديوم، والبوتاسيوم، والتيتانيوم، والحديد، إضافة إلى جزيئات من بخار الماء، والأمونيا، والفورمالدهايد، وغيرها من المركبات الكيميائية. وبالإضافة إلى المادة التي تملأ المسافات بين النجوم، فإن المجالات المغناطيسية تنتشر بين كل أجرام السماء؛ لتربط بينها في بناء محكم التشييد، متماسك الأطراف، وهذه حقيقة لم يدركها العلماء إلا في القرن العشرين، بل في العقود المتأخرة منه.

إنهم بالفعل بدأوا برؤية بناء هندسي محكم، فالمجرات وتجمعاتها تشكل لبنات هذا البناء، كما بدأوا يتحدثون عن هندسة بناء الكون، ويطلقون مصطلحات جديدة مثل: "الجسور الكونية، والجدران الكونية"، وأن هنالك مادة غير مرئية سموها بالمادة المظلمة أي dark matter، وهذه المادة تملأ الكون وتسيطر على توزيع المجرات فيه، وتشكل جسوراً تربط هذه المجرات بعضها ببعض، ففي أحد الأبحاث التي أطلقها المرصد الأوروبي الجنوبي صرح مجموعة من العلماء بأنهم يفضلون استخدام كلمة (لبنات بناء المجرات) بدلاً من كلمة (المجرات)، ويؤكدون أن الكون مزين بهذه الأبنية تماماً كالخرز المصفوفة على العقد أو الخيط!! ففي هذا البحث يقول بول ميلر وزملاؤه: إن المجرات الأولى أو بالأحرى لبنات البناء الأولى من المجرات، سوف تتشكل في خيوط النسيج، وعندما تبدأ ببث الضوء، سوف تُرى وهي تحدد مختلف الخيوط غير المرئية، وتشبه إلى حد كبير الخرز على العقد)، إن هؤلاء العلماء يرون بناء وزينة، ففي أحد المقالات العلمية نجد كبار علماء الفلك في العالم يصرحون بعدما رأوا بأعينهم هذه الزينة: بقولهم: إن المادة في الكون تشكل نسيجاً كونياً، تتشكل فيه المجرات على طول الخيوط للمادة العادية والمادة المظلمة مثل اللآلئ على العقد.

إذن هم في أبحاثهم يتساءلون عن كيفية بناء الكون، ثم يقررون وجود بناء محكم، ويتحدثون عن زينة هذا البناء. ويقررون أن الكون يمتلئ بالمادة العادية المرئية والمادة المظلمة التي لا تُرى، أي لا وجود للفراغ أو الشقوق أو الفروج فيه، وفي مطلع الألفية الثالثة دخل علم الفضاء عصراً جديداً باستخدام السوبر كمبيوتر، عندما قام العلماء برسم مخطط ثلاثي الأبعاد للكون، وقد كانت النتيجة اليقينية التي توصل إليها العلماء أن كل شيء في هذه الكون يمثل بناءً محكماً.

وعلماء الفلك اليوم يطلقون على مادة الكون مصطلح (النسيج الكونيcosmic Web )، بعدما ثبت لهم أن الكون ذو بنية نسيجية، وقد لا نعجب إذا علمنا أن هناك علمًا يدرس بناء الكون أو بنيته النسيجية هذه، وهذه البنية النسيجية تحدّث عنها القرآن أيضاً بوضوح! ولكن ما هي الآية التي تقرر هذا النوع من بنية الكون؟، نحن نعلم بأن النسيج يُحبك حبكاً؛ ليصبح متيناً وقابلاً للاستعمال، فالإنسان لا يستفيد شيئاً من خيوط النسيج إذا لم تكن محبوكة ومترابطة؛ لتشكل له لباساً يحتمي به، لذلك نجد القرآن يتحدث عن البنية النسيجية بكلمة واحدة هي (الحُبُك)، يقول تعالى: ﴿وَالسَّمَاء ذَاتِ الْحُبُكِ﴾[الذاريات:7].

وإذا نظرنا إلى الكون من الخارج رأينا نسيجاً رائعاً متماسكاً ومحبوكاً بدقة فائقة يتألف من آلاف الملايين من المجرات والغبار الكوني وأشياء يعجز العلم حتى الآن عن إدراكها، كل هذا وصفه الله تعالى بثلاث كلمات ﴿وَالسَّمَاء ذَاتِ الْحُبُكِ﴾.

الاكتشافات الحديثة تثبت توسع الكون:

وحتى مطلع العقد الثاني من القرن العشرين، ظل علماء الفلك ينادون بثبات الكون وعدم تغيره، في محاولة يائسة لنفي الخلق، والتنكر للخالق سبحانه وتعالى، حتى ثبت عكس ذلك بتطبيق ظاهرة دوبلر على حركة المجرات الخارجة عن مجرتنا، ففي النصف الأول من القرن التاسع عشر، كان العالم النمساوي دوبلر C.Doppler قد لاحظ أنه عند مرور قطار سريع يطلق صفارته فإن الراصد للقطار يسمع صوتاً متصلاً ذا طبقة صوتية ثابتة، ولكن هذه الطبقة الصوتية ترتفع كلما اقترب القطار من الراصد، وتهبط كلما ابتعد عنه، وفسر دوبلر السبب في ذلك بأن صفارة القطار تطلق عدداً من الموجات الصوتية المتلاحقة في الهواء، وأن هذه الموجات تتضاغط تضاغطاً شديداً كلما اقترب مصدر الصوت، فترتفع بذلك طبقة الصوت، وعلى النقيض من ذلك، فإنه كلما ابتعد مصدر الصوت تمددت تلك الموجات الصوتية حتى تصل إلى سمع الراصد، فتنخفض بذلك طبقة الصوت.

كذلك لاحظ دوبلر أن تلك الظاهرة تنطبق أيضاً على الموجات الضوئية، فعندما يصل إلى عين الراصد ضوء منبعث من مصدر متحرك بسرعة كافية، يحدث تغير في تردد ذلك الضوء، فإذا كان المصدر يتحرك مقترباً من الراصد فإن الموجات الضوئية تتضاغط وينزاح الضوء المدرك نحو التردد العالي (أي نحو الطيف الأزرق)، وتعرف هذه الظاهرة باسم "الإزاحة الزرقاء"، وإذا كان المصدر يتحرك مبتعداً عن الراصد، فإن الموجات الضوئية تتمدد وينزاح الضوء المدرك نحو التردد المنخفض (أي نحو الطرف الأحمر من الطيف)، وتعرف هذه الظاهرة باسم "الإزاحة الحمراء"، وقد اتضحت أهمية تلك الظاهرة عندما بدأ الفلكيون في استخدام أسلوب التحليل الطيفي للضوء القادم من النجوم الخارجة عن مجرتنا في دراسة تلك الأجرام السماوية البعيدة جداً عنا.

وفي عام 1914 م أدرك الفلكي الأمريكي سلايفر Slipher أنه بتطبيق ظاهرة دوبلر على الضوء القادم إلينا من النجوم في عدد من المجرات البعيدة عنا، ثبت له أن معظم المجرات التي قام برصدها تتباعد عنا، وعن بعضها البعض بسرعات كبيرة، وبدأ الفلكيون في مناقشة دلالة ذلك، وهل يمكن أن يشير إلى تمدد الكون المدرك، بمعنى تباعد مجراته عنا وعن بعضها البعض بسرعات كبيرة؟، وبحلول سنة 1925 تمكن هذا الفلكي نفسه Slipher من إثبات أن أربعين مجرة رصدها تتحرك فعلاً في معظمها بسرعات فائقة متباعدة عن مجرتنا (درب التبانة)، وعن بعضها البعض.

وفي سنة 1929م تمكن الفلكي الأمريكي الشهير إدوين هابل Edwin Hubble من الوصول إلى الاستنتاج الفلكي الدقيق الذي مؤداه: أن سرعة تباعد المجرات عنا تتناسب تناسبًا طردياً مع بعدها عنا، والذي عرف من بعد باسم قانون هبل Hubble’s law وبتطبيق هذا القانون تمكن هبل من قياس أبعاد العديد من المجرات، وسرعة تباعدها عنا، وذلك بمشاركة من مساعده "ملتون هيوماسون" Milton Humason الذي كان يعمل معه في مرصد جبل ويلسون بولاية كاليفورنيا، وذلك في بحث نشراه معاً في سنة 1934م.

وقد أشار تباعد المجرات عنا وعن بعضها البعض، إلى حقيقة توسع الكون المدرك، التي أثارت جدلاً واسعاً بين علماء الفلك، الذين انقسموا فيها بين مؤيد ومعارض حتى ثبتت ثبوتاً قاطعاً بالعديد من المعادلات الرياضية والقراءات الفلكية في صفحة السماء.

ففي سنة 1917م أطلق ألبرت أينشتاين A.Einstein نظريته عن النسبية العامة لشرح طبيعة الجاذبية، وأشارت النظرية إلى أن الكون الذي نحيا فيه غير ثابت، فهو إما أن يتمدد أو ينكمش وفقاً لعدد من القوانين المحددة له، وجاء ذلك على عكس ما كان أينشتاين وجميع معاصريه من الفلكيين وعلماء الفيزياء النظرية يعتقدون، انطلاقاً من محاولاتهم اليائسة لمعارضة الخلق، وقد أصاب أينشتاين الذعر عندما اكتشف أن معادلاته تنبئ -رغم أنفه- بأن الكون في حالة تمدد مستمر، ولذلك عمد إلى إدخال معامل من عنده أطلق عليه اسم الثابت الكوني، ليلغي حقيقة تمدد الكون من أجل الادعاء بثباته واستقراره، ثم عاد؛ ليعترف بأن تصرفه هذا كان أكبر خطأ علمي اقترفه في حياته.

وقد نشر العالم الهولندي وليام دي سيتر Williamde Sitter بحثًا في نفس السنة (1917م) استنتج فيه تمدد الكون انطلاقاً من النظرية النسبية ذاتها.

ومنذ ذلك التاريخ بدأ الاعتقاد في تمدد الكون يلقى القبول من أعداد كبيرة من العلماء، فقد أجبرت ملاحظات كل من سلايفر (1914م)، ودي سيتر (1917م)، وهبل ومساعده هيوماسون (1934م) جميع الفلكيين الممارسين، وعدداً من المشتغلين بالفيزياء النظرية، وفي مقدمتهم ألبرت أينشتاين، ومجموعة البحث العلمي بجامعة كمبردج، والمكونة من كل من هيرمان بوندي Herman Bondi وتوماس جولد Thomas Gold وفريد هويل Fred Hoyle والتي ظلت إلى مشارف الخمسينيات من القرن العشرين تنادي بثبات الكون.

وقد تبين فيما بعد أن المجرات لا تبتعد فقط عنا، بل هي تتباعد فيما بينها كذلك، وهذا يعني أن الكون يتوسع على الدوام.

وجه الإعجاز:

رأينا كيف تحدثت الآية الكريمة عن حقيقة البناء الكوني في قوله تعالى:﴿وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾ [الذاريات:47]، وقد ثبُت يقيناً أن البناء الكوني منظم ومعقد ومحكم، وأن في الكون هندسة مبهرة فالكون يحوي أعمدة، ويحوي جسوراً من المجرات، ويحوي كذلك خيوطاً عظمى كل خيط يتألف من آلاف المجرات ويمتد لمئات البلايين من السنوات الضوئية، فسبحان من أحكم هذا البناء وحدثنا عنه قبل أن يكتشفه علماء الغرب بقرون طويلة.

إن هذا البناء لخصه لنا القرآن بكلمة واحدة ﴿بَنَيْنَاهَا﴾، وهنالك آيات كثيرة في القرآن تؤكد حقيقة البناء الكوني كما ذكرنا ذلك في بداية البحث.

وهنا يتفوق القرآن على العلم من جديد، فالعلم يتحدث عن (فضاء)، والقرآن يتحدث عن (بناء)، وكلمة (بناء) هي الكلمة الأنسب علمياً لوصف السماء. فسبحان القائل:﴿وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً﴾ [الفرقان:33]، والقائل سبحانه:﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ﴾[الزمر:23] والقائل:﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثاً﴾ [النساء:87].

وفهمنا من الآية الكريمة أن هذا الكون يتسع باستمرار من بداية خلقه إلى يومنا هذا، فقال تعالى:﴿وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾ [الذاريات:47]، وعبر عن هذا الاتساع باسم الفاعل (مُوسِع)، واسم الفاعل يكون في الأزمنة الثلاثة (الماضي والحال والاستقبال)، كما يقرر ذلك علماء اللغة العربية، أي أن هذا الاتساع بدأ في الماضي وهو مستمر في عصر نزول الآية وسيستمر إلى ما شاء الله تعالى، وتوسع الكون حقيقة لم يتمكن الإنسان من إدراكها إلا في الثلث الأول من القرن العشرين، ودار حولها الجدل حتى سلّم بها أهل العلم أخيرا، وقد سبق القرآن الكريم بإقرارها قبل أربعة عشر قرناً أو يزيد، ولا يمكن لعاقل أن يتصور مصدراً لتلك الإشارة القرآنية الباهرة غير الله الخالق تبارك وتعالى، فسبحان خالق الكون الذي أبدعه بعلمه وحكمته وقدرته، والذي أنزل لنا في خاتم كتبه، وعلى خاتم أنبيائه ورسله صلى الله عليه وسلم عدداً من حقائق الكون الثابتة، ومنها تمدد الكون وتوسعه فقال عز من قائل:﴿وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾ [الذاريات:47]، لتبقى هذه الومضة القرآنية الباهرة مع غيرها من الآيات القرآنية، شهادة صدق بأن القرآن الكريم كلام الله، وأن سيدنا ونبينا محمدا صلى الله عليه وسلم كان موصولاً بالوحي، معلماً من قبل خالق السماوات والأرض، وأن القرآن الكريم هو معجزته الخالدة إلى قيام الساعة.

إعلان