إعلان

في يوم من شهر مارس .. "قصة قصيرة"

د.هشام عطية عبدالمقصود

في يوم من شهر مارس .. "قصة قصيرة"

د. هشام عطية عبد المقصود
07:00 م الجمعة 29 مايو 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

قال له: "طيبُ الأشياءِ مثل سيئها حين يصيران اعتيادًا"، سأل: "وما الضيرُ في محبة الأشياء الطيبة ثم اعتيادها؟" لا يرد، ويكتفي بالإشارة إلى براح كبير يمتد فضاءً، لا يحيط به سور.

له خمسة أصدقاء، جميعهم أحبوا الكتب، يقرؤونها معًا، ويوصون بها لبعضهم، اجتمعوا في نهاية يوم اجتياز الامتحان الجامعي للتخرج، واتفقوا بشكل مباغت وسط صخب وتناثرات حديث متقطع على أن يلتقوا بعد خمسة عشر عاما، بدت الدهشة على بعضهم ثم ما لبثت أن زالت، وهكذا حددوا الموعد في الاثنين الأول من شهر مارس، الساعة الثامنة، كانوا جادين تمامًا، بل وواثقين من وفائهم بذلك وحضورهم في المكان المحدد: بيت صديقهم الذي تظلل مدخل شارعه أشجار متفرقات، وتصعد نخلة تُثمر بلحًا صغيرًا على طول ارتفاع بلكونات البيت ذي الطابقين، والذي يقبع في نهاية الامتداد المسدود من الشارع.

أكثرهم طولا توجه بعد تخرجه إلى مدينة ساحلية صغيرة على تخوم قريته الريفية، أحب المكان تمامًا، يبرر ذلك بأنه وهو طفل كانت أمنيته أن يعيش هنا، في هذه المدينة الصغيرة الساحلية ذات البيوت البيضاء التي يقسمها شارع واحد طويل، معه عرفوا كيف يحبون المدينة الصغيرة البسيطة، يتذكرون طريقها الوحيد الطويل والمقاهي القليلة المتناثرة على شاطئها، وبعض الشوارع المنطلقة من جهة البحر طولاً وتضيق كلما مشوا فيها، ثم الأضواء التي تنسكب من أعمدة الإنارة مساء فتصنع لونًا ذهبيًا يكسو الأرض نجومًا مستقرة.

حين غادرهم ذات مساء؛ ليعمل في البلد البعيد، ذهبوا إليه هناك في مدينته؛ ليصطحبوه، وفي الطريق لمحوا عيونه تطوف بكل شيء، كان يستودع نسماتها طيفا وتصاوير، لم يعد أبدا من غربته، وبقيت المدينة تشيخ معهم حتي صارت الآن منسية لدى عموم الناس، لم يجرؤ أحدهم على السفر إلي هناك ثانية بعد مغادرته، وبلا سبب.

القصير صار تاجرًا، وفتح فروعًا لأعماله، يطلق على كل منها، ساخرًا، اسما لواحد منهم، ويحتفظ بأكبرها -كما يكمل ضاحكا- لاسمه هو، يبيع أشياء كثيرة، ومن بينها الكتب، يقول لهم: "صارت لا تهمني.. فقط أعرضها هنا وفاءً لمحبتكم"، ثم يكمل: "لا أقرؤها" وحينما يتعجب بعضهم متسائلا: كيف!، يضيف: أنا ذلك الذي كنتم تقرؤون عنه أيها البلهاء لكنكم تنسون.. سأذكركم بتلك الجملة: "المدينة لم تعرف رأسماليًا لديه وقت ليقرأ الكتب!"، ثم يضحك عاليًا، لكنه، حين تصدر كتب جديدة، يجمعها في صندوق أنيق ويهديهم إياها، مع رسالة قصيرة: "اقرؤوا ولا تدعوا أولادكم يقرؤون".

الأشقر كان مغرمًا بفتاة، يكتب فيها القصائد مساء، وينتظرها في الصباح لحوحًا، يقولون له متي تُشفى؟ فيغضب ويسبّهم، ثم فجأة يطلب من أحدهم التوسط لديها، وكان لها سحر -حقًا- لا يشبهُ من حولها، فصار كلما ذهب واحد إليها رجع مسحورًا بها، صارحوه: "أيها الصديق، هي أبهى من أن يتسع لها خيالك وحدك"، غضب وأطلق تيارًا متصلا من كلمات تطايرت حولهم، ثم مضى يعتزم قطيعتهم، بحثوا عنه ووجدوه هناك في المقهى الذي يجمعهم، استقبلهم ضاحكًا، وانتهى كل شيء من دون دراما زاعقة.

ذو النظارة، الطبيب، ذهب ليدرس في أرض الإنجليز، وبعث رسالة موحدة لهم جميعًا: "سأبقى هنا!"، شغل وظيفة، وبني منزلاً، في حديقته زهور جميلة متعددة الألوان، يرسل لهم صورته وهو يجلس وأمامه على المنضدة كتاب لا يتبينون عنوانه، تزوج من إنجليزية أجدادها من "الفايكنج" المهاجرين، وأنجب بنتا منحها اسمًا أندلسيا عجيبًا، هو صاحب تلك الجملة الأشهر في كتاب صداقتهم: "عن لون ملابس خاصة سيجعلها راية ما سيجيء"، لا شيء كبيرًا جاء، وظلت تلك الملابس تصنع الذكرى، متبوعة بسؤال: "كيف اهتدى عرافهم الخاسر إلى تلك الجملة؟!".

الضاحك، الذي تركوا له أن يختار ما يريد من ملابسهم؛ ليكون متأنقا على طريقته، ويزور زميلته التي يحب، وكانت أسرتها تقيم في محافظة قريبة للمدينة الساحلية، ذهب شغوفًا محبًا، كانا قد اتفقا على أن يلتقيها على مقهى في عاصمة المحافظة وأكد لها أنه سينهي الأمر وسيذهب معها إلى والدها؛ ليطلب يدها، انتظرها حتى المساء، ثم طال به الأمل فجلس على المقهى وحيدًا حتى ظهيرة اليوم التالي، يقول: "شربت شايًا كثيرًا ونمت متعبًا على مقعد المقهى"، أيقظوه وصرفوه، رجع إليهم وقد أكل الناموس وجهه، صامتًا، تركوه قليلاً، لكنهم عادوا إليه يلحون عليه ضاحكين في دفع إيجار ما أخذ من ملابس، فيقدمها لهم مهترئة متربة، صائحًا: "إنها ملابسكم الملعونة... هي السبب"، ممثلاً صار الآن، وتمنحه الدراما أدوارًا كبيرة تزدحم فيها حركة النساء من حوله.

هل تسألون عن ذلك الموعد الذي حددوه لبعضهم، لم يلتزم أحد قط بهذا بالموعد؛ فتلك أفكار ربما استوحاها صديقهم من فيلم أجنبي شاهده، وكانت عاطفتهم وقتها تميل إلى تصديق أمور كهذه، لا سبب واضحًا لذلك، ربما لأن أحدهم، وبعد مضي سنوات، مر على البيت، ورأى موضعَ جلستهم أمامه وقد صار امتدادا خارجيّا لمحل تصليح سيارات.

لم يذكّر أحدُهم الآخرين بذلك الموعد، ولا بما حدث، حتى أقسم هذا القصير عليهم مغلظًا ومستعينًا بمن يحبون في الحياة أن يأتوا إليه، وهكذا اجتمعوا في خطبة ابنته، وقف يخلي دائرة منتصف المكان، وينادي عليهم فيذهبوا إليه، وحينها بدأ يغني شيئًا عرفوه قديمًا وأحبوه معًا، يغني بقوة، وصاروا يغنون معه، ويبكون كثيرًا.

إعلان