الأدوار التنموية للجيوش

09:00 م الخميس 26 سبتمبر 2019

محمد جمعة

الكثير من الدراسات الاجتماعية التي عنيت بتحليل العلاقات المتشابكة بين القدرات الحربية لأي مجتمع من ناحية، وبين ظروفه السياسية والاقتصادية والفكرية من ناحية أخرى، قدمت لنا الجواب الشافي على السؤال المتعلق بأسباب قيام الجيش بأدوار سياسية أو اقتصادية. وهو ببساطة، أن النظام العام للمجتمع يؤثر مباشرة في قدرة الجيش على شن الحرب والانتصار فيها. فإذا كانت الحرب ومهام الدفاع هي سبب وجود الجيش وشغله الشاغل، فمن الطبيعي أن تهتم قيادته وضباطه بتوفير البيئة الاجتماعية المثلى للاستعداد القتالي. فضلا عن أن قيام الجيش بأدوار تنموية ينبع من حقيقة أن المشكلات التي تظهر بين جنود وضباط الجيش كثيرا ما يكون مصدرها المشكلات في المجتمع. وبالتالي، ليس بمستغرب أن تسهم القيادة العسكرية في التعاطي مع المشكلات الاجتماعية قبل أن تصبح معوقا خطيرا للفاعلية القتالية للجيش.

إعلان

وفى هذا السياق يتفق الكثير من المنظرين من مدارس مختلفة، بما في ذات الليبرالية واليسارية، على أن رجال الجيش يؤدون أحيانا أدوارًا مفروضة عليهم من جانب المنظومة الاجتماعية. وأن الجيش في بعض المجتمعات يجد نفسه مضطرًا للقيام بأدوار تتجاوز المهام التقليدية له، وذلك لأسباب تتعلق بظروف استثنائية تعيشها المجتمعات عادة في المراحل الانتقالية أو في لحظات الاضطراب والفوضى... بمعنى أن الجيش، في مثل هذه الحالات، يتحرك لملء فراغ مؤسسي.

جملة هذه المعاني تفسر لنا بدرجة كبيرة أسباب اشتباك الجيش المصري بكثافة، منذ ثورة 30 يونيو وحتى الآن، على جبهتين معا، وبشكل متزامن. الجبهة الأولى: "حرب البناء والتنمية". والثانية: "حرب الحفاظ على مقدرات الدولة في مواجهة الإرهاب".

الجبهتان معا تعكسان توافر الإرادة لمواجهة تحدى "البقاء والبناء" في لحظة استثنائية يعانيها الوطن والإقليم ككل. وكذلك تترجمان المعنى المتعلق بأن التنمية الاقتصادية هي أحد المداخل المهمة لمعالجة التطرف.

في مصر يبدو لى أن الذين يجادلون بشأن ممارسة الجيش لأدوار تتخطى دوره التقليدي (أي الدفاع عن الوطن) يغفلون عن معطيات العقدين الماضيين بشأن أدوار الجيوش في التنمية الوطنية في الدول النامية، ويسقطون من حساباتهم الاعتبارات الاقتصادية لهذا التدخل.

كذلك يبدو أنهم قد فاتهم النظر في تجارب بعض الدول التي تمتلك جيوشا كبرى في الإقليم كتركيا وإسرائيل (بشكل أساسي) وباكستان وإيران (بدرجة أقل) والتي أظهرت أن القوات المسلحة يمكن أن تلعب أدوارًا تنموية واجتماعية كبيرة، من دون أن يؤثر ذلك على الفاعلية العسكرية. فضلا عن أنهم (في سياق الجدل حول دور المؤسسة العسكرية في التنمية الوطنية) لا يعيرون اهتمامًا للاتجاهات الحديثة المستقرة الآن بشأن مفاهيم: "الحرب الشاملة" و "الدفاع الفعال".

فمن ناحية، يستند تدخل الجيش في مجال التنمية إلى أرضية اقتصادية تتمثل في:

1- أن المشروعات ذات الكلفة المرتفعة جدًا تصبح ممكنة إذا ما نفذتها أفراد القوات المسلحة. يحدث هذا؛ لأن نفقات محددة (مثل الأجور ونفقات الاستضافة والإعاشة) يتم الوفاء بها بشكل أو بآخر تلقائيا في حالة استخدام القوات المسلحة في هذا العمل.

2- في أغلب الحالات، تتوافر متطلبات تطوير البنية التحتية، لدى الجيش بأكثر مما تتوافر لدى أي مؤسسة أخرى. بمعنى أن القوات المسلحة عادة تكون مستعدة أكثر من غيرها كي تسهم في تنمية البنى التحتية، إذ أن عناصرها مدربة على مشروعات الهندسة والاتصالات لأغراض عسكرية.

بل وتتعدد أيضا أغراض تلك المشروعات لتشمل أغراضا عسكرية ومدنية على السواء... فتحسين الطرق وشبكات الاتصال ترفع الكفاءة العسكرية، كما أنها تحسن الوضع الاقتصادي أيضا. وهذا الأمر لا يقتصر على مصر وحدها، بل يشمل دولا أخرى في الإقليم، من أمثلة ذلك:

تطوير الجيش التركي، قبل سنوات، لشبكة طرق سريعة وحديثة، أسهمت في زيادة كفاءة خطوط مواصلات واتصالات الجيش، وكذلك في انسيابية حركة التجارة الداخلية.

كذلك باكستان، كانت مشروعات الطرق التي يشيدها الجيش تدخل ضمن خطة تنموية شاملة.

لكل تلك الاعتبارات السابقة، أصبحت الكثير من البلدان على دراية بقدرة الجيش على المساهمة في هذه المجالات، وأصبحت المشروعات التي ينفذها الجيش تُقاس ليس فقط من حيث جدواها العسكرية، بل أيضا جدوها التنموية والاقتصادية.

ومن ناحية ثانية، الذين يعتقدون بأن تدخل القوات المسلحة في مجالات التنمية يؤثر سلبيا، بشكل حتمي، على المهمة الرئيسية لها – الدفاع الفعال عن البلاد - ربما يتعين عليهم إعادة قراءة تجربتي الجيشين التركي والإسرائيلي في هذا المضمار، خاصة وهما الجيشان اللذان اعتادت الدوائر العسكرية والاستراتيجية في الغرب على تصنيفهما في مرتبة متقدمة في الإقليم. وتكفى هنا الإشارة إلى أن الجيش الإسرائيلي، خلال عقود ماضية، نفذ برنامجًا تعليميًا مكثفا لمعالجة معضلة التفاوت في المستوى التعليمي بين اليهود الشرقيين، واليهود من أصول غربية. وقد استفاد المجتمع الإسرائيلي بأكمله من تلك الدورات التعليمية، وليس فقط المجندين.

أما عندنا في مصر، فليس بوسعنا عدم الوقوف على دلالات تجربة الجيش خلال السنوات الست الماضية!! وفى هذا السياق ليس بالإمكان أن تفوتنا ملاحظة أن الفترة التي ازداد فيها انخراط الجيش في الشأن الداخلي، هي ذاتها التي زاد فيها نشاطه على صعيد القيام بمهام وظيفته الأصلية، والشاهد على ذلك، هذا الاشتباك الدموي الكثيف مع شبكات الإرهاب في سيناء منذ سبتمبر2013 وحتى الآن، فضلا عن التدابير الاحترازية على حدودنا الغربية. وهي اللحظة ذاتها التي تكثفت فيها برامج التدريب لرفع الكفاءة القتالية لوحداته. بل وهي ذاتها التي ازدادت فيها أيضا كل عمليات تنويع مصادر السلاح، بل وتوطين التكنولوجيا العسكرية أيضا. بعد أن ضاعف الجيش جهوده لإبرام اتفاقات إنتاج مشترك مع شركات دفاع أجنبية، الأمر الذي لا يعنِ فقط توفير فرص أفضل لصادرات مستقبلية، بل أيضًا الحصول على مداخل إلى تكنولوجيات جديدة.

ومن ناحية ثالثة، في سياق "الحرب الشاملة"، لا يكفي أن تدافع القوات المسلحة عن بلادها فقط بأن تعد نفسها للحرب النظامية، خاصة إذا ما كانت الحرب تتم بالتزامن في مجالات عديدة (سياسية، اقتصادية، دبلوماسية وعسكرية) وإنما يبدو منطقيا أن تحاول المؤسسة العسكرية المنوط بها مهام الدفاع عن البلاد، مكافحة هذا التهديد، ليس فقط في ساحة المعركة، بل أيضا على أصعدة أخرى. وربما في بعض الأحيان تصبح مساهمة القوات المسلحة في التنمية الوطنية أمرًا حتميًا، كي تضمن أن تجهيزاتها الدفاعية لن تذهب هدرا.

حفظ الله مصر وجيشها.

إعلان