إعلان

 الأمكنة والبشر والمناخ في "خطط مصر القاهرة"..

د. هشام عطية عبد المقصود

الأمكنة والبشر والمناخ في "خطط مصر القاهرة"..

د. هشام عطية عبد المقصود
09:00 م الجمعة 21 يونيو 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

في كتابه الموسوعي الفذ "الخطط التوفيقية" والذي ينوء به الفرد بحثا وعلما وجهدا، يقدم علي باشا مبارك تفسيرا مهما لتجشمه كل هذا العبء فكرا وجهدا في التخطيط وكتابة لكل هذا المحتوي في أجزائه العشرين والصادر عام 1888، حيث نستخلص كيف تنتصر العزيمة والفكرة المبررة فتنتهي بالمنجز وعن كيف للفرد أن يري وسط الجموع غير ما يدركه الآخرون فيبقى له الأثر والسبق، حين يؤكد فيه أنه لم يجد من يساعده أو يشاركه في كتابه وحيث " لا حياة لمن تنادى"، هذا العمل يقدر بعض المؤرخين أن كتابته قد استغرقت ما يقرب من 16 عاما، وهو يستكمل به كما ذكر "خطط المقريزي" التي جعلها الزمان لا تتضمن ما يستجد من عمران وتغيير، يقتضي أن يحاط به ويدون، ويخصص فيه علي باشا مبارك أجزاء للمدن وشوارعها والأحياء وتاريخها، مانحا للقاهرة تموضعها وخصوصياتها.

وتمثل سيرة علي باشا مبارك تعبيرا خاصا عن السعي والطموح الإنساني وما يمنحه ذلك من عزم يتخطى حواجز الظروف والسياقات والمعرقلات، طفلا صغيرا لم يتجاوز 12 عاما يتحمل مسؤولية بل وعبء أن يرتحل وراء حلمه، مغادرا قريته الصغيرة في الدقهلية عام 1835 ليلتحق بمنظومة التعليم الجديدة التي أنشأها الوالي محمد على، وليتخرج في مدرسة المهندسخانة مُظهرا نبوغا وتفوقا يؤهلانه للابتعاث إلى فرنسا، ثم يعود إلى مصر فيتولى ديوان إدارة المدارس وليشرف على تطوير منظومة التعليم في عهد الخديوي عباس الأول، ثم يتبوأ مكانة خاصة في عهد الخديوي إسماعيل ويكون مسؤولا في إطار خططه العمرانية عن تنظيم القاهرة الحديثة.

وننقل هنا من النسخة الخاصة للجزء الأول لسفره الكبير "من الخطط التوفيقية الجديدة لمصر القاهرة، ومدنها وبلادها القديمة والشهيرة" والكتاب يحمل تأليف "الجناب الأمجد والملاذ الأسعد سعادة علي باشا مبارك حفظه الله" على الغلاف وربما هو تعبير بيروقراطي عن الحالة الوظيفية المهمة والرفيعة التي كانت لعلي باشا مبارك وقت إصدار هذا الكتاب، وحيث يحمل الغلاف، أنه الطبعة الأولي بالمطبعة الكبرى الأميرية ببولاق مصر المحمية، سنة 1306 هجرية، أي في عام 1888 ميلاديا.

ويحمل الكتاب في هذا الجزء بعضا من أهم التواريخ والمفارقات وأيضا ما يستدعي سياقات المقارنة تاريخيا عبر العقود والقرون، فعن إدخال الماء النقي إلى القاهرة على نهج ما هو متبع في الدول الأوروبية ونعرفه حاليا يقدم لنا علي باشا مبارك قصة ذلك، وكيف تتم صناعة القرارات وما قد يحمله ذلك من بعد نظر وتقدير للمواقف: "في سنة خمس وستين ومائتين وألف قصد عباس باشا آمر توزيع المياه في القاهرة باستعمال وابورات رافعة للمياه وتوزيعها بمواسير داخل البلد، ثم عُرض عليه مبلغ التكاليف وهو مائة وثلاثون ألف جنيه فاستكثره وأعرض عن ذلك فلما آل الأمر إلى الخديوي إسماعيل أخذوا في إجراء العمل".

وعن تعداد السكان في ذلك الزمان البعيد وحيث يحتار العقل وهو يسأل كيف ومتى حدثت تلك التكدسات السكانية الخانقة وتراكمت، يقدم علي باشا مبارك إحصاءات مثيرة للدهشة: "وفي التعداد الذي صار في المحرم 1289 هجرية الموافق 11 مارس سنة 1872 ميلادية كان عدد سكان القاهرة (349,883 ) ومن هنا يظهر أن أهالي القاهرة زادوا في عشر سنين (24955) شخصا وبالتقريب خمسة وعشرين ألف نفس، وفي خطط الفرنساوية كان تعداد أهالي القاهرة مائتين وستين ألف نفس، فتكون الزيادة التي حصلت في ظرف ست وثمانين سنة مائة وخمسة عشر ألف نفس، فيخص كل سنة 1337 نفسا، ويعلم من ذلك أن الرغبة في سكني القاهرة كثرت في أيام خلفاء العزيز محمد علي عما كانت في مدته، خصوصا رغبة الإفرنج في سكناها بعد إنشاء السكك الحديد وتوزيع الغاز والماء فيها" وهو يقدم لنا هنا تفسيرا ضمنيا عن كيف ازدحمت مدينة القاهرة ونمت سكانيا بفعل تركز المرافق والعمران وأيضا ما يستتبع ذلك من توافر المصالح التجارية والاقتصادية وهو ما يجلب هجرات سكانية من الأقاليم والمدن الأخرى سعيا وراء الرزق والمعايش.

وفي ذات السياق يقدم لنا ملمحا عن التنوع السكاني وكيف شكلت القاهرة مدينة جذب كونية بفعل ازدهارها الاقتصادي والمجتمعي: "وعدد أهالي القاهرة على حسب التعداد الذي صار في 3 مايو 1882 ميلادية هو (374838) منهم (22422) غريبًا.. (7000 رومي) و(5000 فرنسي) و(1000 إنجليزي) و(1800 نمساوي) و(450 ألمانيا) و(400 عجمي) و(3367 إيطاليا) و(230 أوروبيا من أجناس مختلفة)".

ولا يقف بنا عند حيز وصف العمران والشوارع وتطورها تاريخيا بل يمتد أيضا إلي تعريفنا بما عاشته القاهرة والمدن المصرية ذات يوم من طقس ودرجات حرارة تجعلنا نتيقن بشأن ارتباط التكدس السكاني وارتفاع المباني بارتفاع درجات الحرارة ونسب التلوث: "ومتوسط الحرارة في السنة ( 21,66 ) درجة وتختلف درجة الحرارة بحسب الفصول وبالنسبة لجهات القطر، ففي وجه بحري في ثلاثة شهور فصل الشتاء 12 درجة وأحيانا 14 درجة وفي ثلاثة شهور فصل الربيع ترتفع إلى 24 درجة وفي ثلاثة شهور فصل الصيف ترتفع الي 29 درجة وفي ثلاثة شهور فصل الخريف تنحط إلى 18 درجة وفي الأقاليم الوسطي تزيد عن الأقاليم البحرية بدرجتين، وعادة يوجد فرق جسيم في جميع البلاد المصرية بين حرارة النهار والليل حاصل عن هبوب نسيم من الجهة البحرية عند غروب الشمس ويشاهد أن حرارة الليل تنقص عن حرارة النهار ثماني درجات وتارة اثنتي عشرة درجة".

إعلان