إعلان

ليلة يوسف شريف رزق الله بمهرجان القاهرة السينمائي الـ٤١

د. أمل الجمل

ليلة يوسف شريف رزق الله بمهرجان القاهرة السينمائي الـ٤١

د. أمل الجمل
09:00 م الإثنين 25 نوفمبر 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

كانت القاعة ممتلئة عن آخرها، وهناك عدد غير قليل يقف في الممرات على امتداد جانبي الصالة. أمام الصف الأول التفت وزيرة الثقافة إيناس عبدالدايم، ورئيس المهرجان محمد حفظي، وأحمد شوقي القائم بأعمال المدير الفني، وآخرون حول أفراد أسرة الراحل يوسف شريف رزق الله، فقد حضرت زوجته السيدة/ ميرفت الإبياري، ونجلاه أحمد وكريم رزق الله، وذلك للمشاركة في استقبال الفيلم الذي يحتفي برزق الله ومسيرته، مُسلطاً الضوء على جذور عشقه للسينما، وولعه بها منذ مرحلة مبكرة من حياته.

على باب قاعة سينما الهناجر كان هناك طابور آخر من الشباب والشبات - بعضهم مخرجون - مختلفو الأعمار ما زالوا يرغبون في الدخول لنفس القاعة، لكن التذاكر كانت قد نفدت. من ثم وعدت إدارة المهرجان بتقديم عرض آخر لفيلم "رزق السينما" الذي يحكي عن أحد أهم رواد الثقافة السينمائية التليفزيونية في مصر، وهو المدير الفني لمهرجان القاهرة السينمائي يوسف شريف رزق الله الذي تحمل الدورة الحادية والأربعون من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي اسمه، تكريمًا له ووفاءً بدوره وعطائه الكبير.

العمل بدون أجر

في الدول الأوروبية تنتشر ثقافة العمل التطوعي. الإنسان لا بد أن يعمل حتى لو كان ذلك من دون أجر أحياناً. ليس فقط انطلاقاً من واجبه إزاء مجتمعه، أو لتخفيض الضرائب المفروضة عليه، ولكن أيضاً؛ لأنه لا بد للإنسان أن يعمل لحماية صحته النفسية والجسدية. العمل يجعلك تلتقي بالناس، وتتفاعل معهم، يجعلك تُنفس عن الطاقة السلبية بداخلك، العمل يحميك من شرور نفسك، يجعل ذهنك مُنشغلًا عن الأمور التافهة التي قد تسحبك في دوامتها، ويسرقك من مشاكل الحياة الصعبة، أو تلك المستحيل حلها أحياناً، فتحمي عقلك، أو تُنجز بعضًا من أحلامك المُعطلة. العمل يجعلك تبذل جهدًا وهذا لصالح البنية الجسدية، وإلا دعونا نتساءل لماذا يحرص الكثيرون على ممارسة الرياضة رغم أنهم يبذلون جهداً كبيراً، ويتعرقون، ولا يحصلون على أجر، بل يدفعون أموالاً مقابل ممارستهم تلك الرياضات المختلفة؟

أستعيد هذا لسببين: الأول؛ موقف حدث معي قبل عرض فيلم "صيف شنغهاي" بأسبوع النقاد الذي تنظمه جمعية نقاد السينما المصريين بالتعاون مع مهرجان القاهرة السينمائي، أمام قاعة عرض المسرح الصغير تحدثت إلى مخرجة شابة، عرفتني بنفسها، وعندما سألتها عن مشاريعها تحدثت بأسى عن رفض كل الجهات تمويل مشروعها الوثائقي عن يحيى الطاهر عبدالله، فالجميع يرونه مشروعًا ثقافيًا، غير جذاب. اشتكت أن أغلب الشخصيات التي كانت تريد التصوير معها لعلاقتها القوية أو المعرفية بـ"يحيى الطاهر عبدالله" قد رحلت عن الحياة أثناء رحلة بحثها عن التمويل الذي لم تتحصل عليه. فقلت لها: "أنت تحتاجين إلى كاميرا ومصور، وانزلي صوري اللقاءات مع الناس المهمة، وأثناء ذلك أو حتى بعد ذلك دوري على تمويل"، والمفاجأة أن لديها كاميرا، لكنها لا تزال تنتظر التمويل والدعم. لكن في رأيي هذا تضييع للوقت والعمر. مَنْ يحلم، عليه أن يتبع حلمه، ولا ينتظر الآخرين. حتى وإن كان حلمك غير مرئي لعدد من السنوات، لكن يكفي أنك تراه ينمو ويكبر ولو بطيئًا.

حُبًا في يوسف شريف رزق

أما السبب الثاني، إنني سعدت عندما علمت أن فريق عمل فيلم "رزق السينما" وافق على العمل دون أي مُقابل مادي، الجميع عمل بالفيلم حُباً في يوسف شريف رزق الله. وفرت إدارة المهرجان الكاميرات والمونتاج. جميع الشخصيات التي تم التصوير معها لم تطلب أي أجر. نحو عشرين شخصية وربما أكثر، بينهم نجوم ونجمات كبار مثل يسرا، وحسين فهمي، وحيد حامد، مروان حامد، درية شرف الدين، يسري نصر الله، وخيري بشارة، هالة خليل، ومديرا التصوير محمود عبدالسميع رئيس جمعية الفيلم، وسعيد شيمي، وكل من النقاد كمال رمزي، إلى جانب مجموعة من جيل الشباب.

الفيلم هو أولى تجارب المخرج الشاب عبدالرحمن نصر في الإخراج الوثائقي، وهو أحد أبناء قناة النايل سينما، القنوات المتخصصة التي تتبع اتحاد الإذاعة والتليفزيون المصري. تعددت التجارب السابقة للمخرج في مجال البرامج التليفزيونية، السريعة، المكثفة، المهتمة بالشأن السينمائي وخصوصا تغطية الفعاليات المهرجانية، وهو يُدرك أن سرعة الإيقاع مع قوة المضمون أحد أهم معايير المنافسة؛ لذلك انصب اهتمام عبدالرحمن نصر على جماليات الصورة وبساطة الكادر الذي لا يتخلى عن دلالته التعبيرية في آن واحد، فأغلب اللقاءات تمت في قاعة للسينما، وكانت خيوط الضوء تتدفق من الشباك الصغير الذي تختبئ خلف جدرانه آلات العرض، فبدا الأمر وكأنه ضوء شريط السينما المسلط على الشاشة الكبيرة بينما الضيوف واحدًا تلو الآخر يسردون حكاياتهم مع يوسف شريف رزق الله، أو يستعيدون كيف كان يدعمهم، أو يحكون عن ملامح شخصيته التي اهتمت بالسينما ولا شيء غير السينما.

هذا، إلى جانب بعض اللقاءات القليلة خارج القاعة سواء كانت في منزل أحد الضيوف أو في مكان خارجي كما حدث مع السيناريست وحيد حامد الذي يعشق الجلوس على النيل بشرفة أحد فنادق مصر، ويُجري حواراته هناك، والذي تحدث عن علاقته برزق الله، وبأسرته، فقد كان يعمل أيضاً في الأخبار بالتليفزيون المصري مع زوجته السيدة زينب سويدان، والتي كانت ترفض أن يلتحق ابنها مرون حامد بالمعهد العالي لدراسة السينما، ولكن يوسف شريف رزق الله أقنعها بذلك، مثلما كان ملهمًا لآخرين وسبباً جوهرياً في عشقهم لفن السينما، بل كان بوابة المعرفة والوعي التي من خلالها عبر كثيرون إلى عالم الفن السابع سواء في النقد والتحليل أو في مجال الإبداع السينمائي.

يعتمد السرد بفيلم "رزق السينما" على التقطيع السريع جدًا بين الضيوف، واختيار جُمل مُكثفة مُعبرة عن شخصية رزق الله. اكتفي المخرج بحدود هذا الشكل؛ لأنه كان يُدرك أن قيمة الشخصية وثقل تأثيرها، وما سيُقال عنها لا يحتاج إلى أي إبهار بصري، أو أي محاولات استعراضية على مستوي الشكل. وبالفعل كان الفيلم مؤثرًا على المستوي الإنساني، وأتاح لنا جميعاً متابعة إضاءة جديدة على شخصية يوسف شريف رزق الله.

بالطبع، تلك الشخصية الموسوعية بأثرها الكبير والعميق على أجيال متتابعة، يمكن أن يُصنع من حولها عدة أفلام من زوايا مختلفة، لكن أحد الخواطر التي جالت بخاطري أثناء عرض الفيلم، كيف سنحافظ على تراث وإرث يوسف شريف رزق الله، حتى يبقى للأجيال التي ستولد بعد خمسين أو سبعين سنة من الآن؟

نعم، صحيح جدًا أن تأثير يوسف شريف رزق الله قوي على عدة أجيال؛ لأنه اعتمد على التليفزيون في نشر ثقافته، وهذا الأثر يكشف بما لا يدع مجالاً للشك عن أهمية وخطورة التليفزيون في التأثير على المتلقي.

ولكن، ماذا بعد خمسين أو سبعين عامًا من الآن، بعد أن ترحل جميع الأجيال التي أثر فيها، وعليها، يوسف شريف رزق الله؟ ماذا سيبقى من أثره وإرثه الذي يعتمد أساساً على شرائط مُسجلة للتليفزيون، وربما يكون بعضها أو أغلبها لم يعد له وجود؟ لذلك أدعو أسرته، ومهرجان القاهرة السينمائي بتجميع مقالات يوسف شريف رزق الله التي كانت تُنشر في نشرة نادي السينما، أو في المجلات الأخرى، كذلك تجميع مقالاته وحواراته المترجمة بين ضفتي كتاب. أدعوهم أيضاً لجمع جميع حلقات برامجه التليفزيونية، أو المتاح منها، وتخصيص قناة له، أو موقع، وتحميل هذه البرامج الثقافية المهمة عليه. بل أتمنى تفريغ محتواها في كتاب أو اثنين، وذلك من أجل توثيق أثر وإرث يوسف شريف رزق الله وتخليداً لذكراه. هذا الإرث هو ما سيبقى للأجيال التالية، وهو أمر بالغ الأهمية لتاريخ الحركة النقدية والثقافة السينمائية في مصر.

إعلان