إعلان

ليلى التي تعرفني.. "قصة قصيرة"

ليلى التي تعرفني.. "قصة قصيرة"

د. هشام عطية عبد المقصود
09:00 م الجمعة 11 مايو 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

هل عرفتم ليلى؟ ليلى الصغيرة ذات الضفيرتين، صاحبة الفستان الملون بالأزرق والأحمر يتوسطه ورد كبير، ليلى الطفلة التي تبهر الزملاء بعزفها في حصص الموسيقى، ليلى الصاحبة في طريق المدرسة الابتدائية الممتد، تنتظرك في فراغ الفسحة، فتنتظرها حين العودة، مستمعًا إلى أمها توصيك بها وأنتما تمضيان سويا: "خلي بالك منها"، تسمع باهتمام وتشعر بأنك صرت كبيرًا، ليلى التي تسير إلى جوارها في طريقكما اليومي نحو المدرسة، ليلى التي تعطيك كل صباح ساندوتش الجبنة الرومي المفضل لديك، وتقرأ معها مجلتي "ميكي" و"تان تان" حين كل أسبوع تحضرهما أمك.

ليلى التي يوصيك أبوك بها: لا تجعل الأولاد يزعجونها، ليلى التي تتبادل معك أقلام الفلوماستر فترسمان سويا على صفحتي كراسة الرسم الزاهيتين المتقابلتين أشجارًا، ترسم هي شجرة خاصة تمامًا لا تشبه الأشجار التي كنا نعرفها، ليلى ترسم الشجرة زهرة كبيرة وتضع بدلاً من الأفرع فراشات تطير، وأرسم نخلة على شاطئ بحيرة بها قارب، ونلون معًا أرضية تمتد بطول الصفحتين، ليلى التي أنتظرها كل صباح مبكرٍ حتى تهبط من بيتها بعد أن تتلقى تحية من والدتها وتأتى.

حقيبتي بنية وحقيبتها زرقاء، وقد نتبادل حمل الحقيبتين ثم نمضي بهما هكذا حتى نتذكر، ننتبه حين تبدأ أول حصة، فنضحك، المدرسة قريبة، نعبر بيوت الناس الذين نعرفهم بالأسماء ويعرفون أسرتينا، يعطينا البقال الذي في منتصف الشارع قطع "الكراملة" في شكل نجوم وعصافير وأهلة، ليلى والدتها طبيبة في الوحدة الصحية المجاورة للمدرسة، قد تمر عليها وتعطينا شيكولاتة "كورونا"، تعرف أني أحب الشيكولاتة ذات الغلاف الفضي، لا تخطئ أبدا في لون الشيكولاتة التي يفضلها كل منا.

أمي تهدي ليلى فستانًا أبيض بفراشات، ومساء كل يوم سبت يلتقي أبوها وأبي يتحدثان وهما يشربان الشاي وأحيانا فنجانًا من القهوة، أسرع لأحضر الطاولة الخشبية وأجلس إلى جوارهما متابعًا، أسمع دائمًا اسم زهرتي النرد بعد أن يستقرا من حركاتهما السريعة في المساحة البيضاء التي تتخلل المثلثات الطويلة السوداء، وكثيرا ما أسمع صوت "قشاط" الطاولة يحدث طرقعة محببة على الأرضية الخشبية العتيقة، يسعدني كثيرًا فتح قفل الطاولة، شنكل حديدي صغير أجذبه فتنفتح.

تأتي ليلى أحيانا فأترك متابعة الطاولة ونتحدث ونرسم، هى دوما ترسم أشياء متقنة لكن لا تتباهى بذلك، وتقترح علي ألوانا مبهجة، هي ليلى التي عرفتها، وسرت معها كل صباح في طريقنا إلي المدرسة، ليلى التي كنا لا نبكي حين يأتي اليوم السنوي للتطعيم، نشمر أيدينا وننظر لبعضنا كأن كلا منا يأخذ قوة من صمت الآخر فيخفت الألم.

ليلى التي تعرفني ويحتفظ الألبومان العائليان لكلينا بصورتي وصورتها وأسرتينا بالأبيض والأسود في مناسبة صرت لا أتذكرها، الجميع يبتسمون وهم ينظرون لضوء الفلاش.

ليلى لم تهبط من بيتها في ذلك الصباح البعيد، كانت أمي قد أخبرتني أن أسير اليوم وحدي لأن ليلى ستكون لدي جدتها، نظرت إلى بلكونتهم وجدت شيشها مغلقًا، في اليوم الثاني أيضًا لم تجئ، وحين نظرت ثانية كانت البلكونة كأمس وانتبهت إلى أن أحدًا لم يغلق ضوء اللمبة التي تتوسط سقفها، أيام كثيرة لا أحد يطفئ ضوء اللمبة أو يفتح الشيش الأخضر.

لا تضيف أمي شيئًا حين أسألها، فكرت وخمنت أن ليلى ما زالت عند جدتها، ومشيت كأيام سبقت وحدي، لم أعد أشتري الكراملة، وحين أستمع إلى صوت البقال يناديني لا أرد، كراسة الرسم لم أضف لها بحيرات أخري وظلت أشجار ليلى تفوح كلما فتحت الكراسة، ليلى لم ترجع أبدا إلى المدرسة، ولم يحك أحد لي ما حدث، ليلى التي مضت ظل مقعدها إلى جوار شباك الفصل دومًا فارغا.

إعلان