إعلان

مأزق التعليم في مصر.. بين النشأة والفرز الاجتماعي (3-4)

مأزق التعليم في مصر.. بين النشأة والفرز الاجتماعي (3-4)

د. عبد الخالق فاروق
09:00 م الخميس 19 أبريل 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

(2) ثورة يوليو 1952 والتحيز لتعليم أبناء الفقراء:

تمثل تحيز نظام ثورة يوليو عام 1952 لتعليم أبناء الفقراء وتعويضهم عن حرمانهم التاريخي من هذا الحق في أربعة إجراءات:

الأول: زيادة المخصصات المالية الموجهة للتعليم.

الثاني: مصادرة عدد كبير من قصور كبار رجال الأسرة المالكة والأجانب والمتعاونين منهم مع الاستعمار البريطاني وتحويلها إلى مبانٍ مدرسية وتعليمية.

الثالث: إقرار مبدأ مجانية التعليم الجامعي عام 1962، ثم الإقرار في دستور عام 1964 والدساتير اللاحقة بمبدأ مجانية التعليم في جميع مراحل التعليم.

الرابع: إعادة تنظيم هيكل التعليم العام وضبط نظام التعليم الحر (الخاص) والمدارس الأجنبية.

فإذا بدأنا بالإجراء الأول نجد أن مخصصات التعليم قد أخذت في التزايد عاماً بعد آخر من 29 مليون جنيه عام 52/1953 (بما يكاد يعادل 13.9% من إجمالي مصروفات الميزانية المصرية)، إلى أن بلغت 71.1 مليون جنيه عام 60/1961 (بما يعادل 19.2%)، ثم عادت وانخفضت إلى 13.5% عام 62/1963 بسبب إدخال ميزانية قطاع الإنتاج إلى الميزانية العامة للدولة بدءاً من ذلك العام.

ويهمل كثير من الباحثين والدارسين لاقتصاديات التعليم في مصر عنصراً إضافياً قامت به سلطة النظام الجديد، من خلال مصادرة نحو ثلاثة آلاف قصر متوسط وكبير تعود لأبناء الطبقات القديمة، وحولتها إلى مدارس لأبناء الفقراء*، ويقدر حجم هذا التمويل الإضافي بنحو 150 مليون جنيه خلال الفترة الممتدة من عام 1954 حتى عام 1964 (أي بمتوسط 15 مليون جنيه سنوياً خلال هذه الفترة)، وفي ضوء تقدير عميد التربويين العرب (د.حامد عمار) الذي قدر تكلفة مبني مدرسة في المرحلة الابتدائية مكون من 6 فصول في ذلك الوقت بنحو 7200 جنيه، ونحو 8700 جنيه في حال مبني مكون من 9 فصول ونحو 9600 جنيه في حال مدرسة مكونة من 12 فصلاً دراسياً.

أما في حال مدرسة إعدادية فإن التكلفة تتراوح بين 12 ألف جنيه و36 ألف جنيه بحسب نوعها، والمدرسة الثانوية تتراوح بين 24 ألف جنيه و48 ألف جنيه، أما المدرسة الصناعية فكانت تكلفتها نحو 100 ألف جنيه (22)، وبالمثل زاد عدد العاملين في قطاع التعليم (مدرسين وإداريين) من 45 ألفاً عام 1952 إلى 1.9 مليون بنهاية عام 2008، كما زاد عدد المنشآت التعليمية الحكومية من أقل من خمسة آلاف مدرسة إلى ما يقارب 12 ألف مدرسة عام 1973. ثم أصبحت تقارب 35 ألف مدرسة بنهاية عام 2006 (23)، وكذلك الجامعات الحكومية التي زاد عددها من ثلاث جامعات فقط (فؤاد – فاروق – إبراهيم) عام 1952 إلى 16 جامعة حكومية خلال نفس الفترة، ينخرط فيها نحو 1.7 مليون طالب وطالبة.

وفي مجال إعادة التنظيم حرصت حكومة الثورة الجديدة على إعادة هيكلة التعليم، فجرى إلغاء نظام "المدرسة الأولية" ذات الأفق المسدود على حد تعبير أستاذ الأجيال (د. حامد عمار)، وتم دمجها في المدرسة الابتدائية Primary School التي أصبحت 6 سنوات تعليمية، تليها مرحلة التعليم الإعدادي Prep School، ومدتها ثلاث سنوات، أعقبتها مرحلة الثانوي العام أو الثانوي الفني ومدتها ثلاث سنوات أخرى مع بقاء نظام المعلمات خمس سنوات بعد المرحلة الإعدادية.

وفي نفس الوقت جرى إصدار عدة قوانين تستهدف ضبط وإعادة تنظيم التعليم الحر(الخاص) والمدارس الأجنبية مثل القانون 538 لسنة 1955 والقانون (160) لسنة 1958 والقانون 16 لسنة 1969 (24)، كما أنشئ مكتب للتنسيق للالتحاق بالجامعات المصرية عام 1953، وتوسع دوره، وضمن إلى حد كبير درجة أعلى من تكافؤ الفرص بعد زيادة الإقبال على التعليم الجامعي والعالي بعد إقرار مبدأ مجانية التعليم الجامعي عام 1962.

ومن الأمور ذات الدلالة هنا، ما أشار إليه عميد التربويين العرب، حيث يذكر أن تكلفة الطالب في المرحلة الابتدائية عام 62/1963 لم تكن تزيد على 9.1 جنيه/سنة، ونحو 28.0 جنيه لطالب المرحلة الإعدادية، ونحو 43.8 جنيه لطلبة الثانوي العام، أما طلبة دور المعلمين والمعلمات فقد كان الواحد منهم يتكلف سنوياً نحو 86.0 جنيه بسبب تكاليف إقامته الداخلية بالمدرسة وتغذيته (25).

وإذا قدرنا عدد المنضوين تحت مظلة النظام التعليمي بوحداته المختلفة حتى عام 1950 بدءاً من المدارس الأولية انتهاءً بالجامعات الثلاث، نجد أننا إزاء نحو505 آلاف تلميذ وطفل ينخرطون في جميع وحدات النظام التعليمي المصري المتواضع وشبه الأهلي، أي ما يعادل 2.5% من إجمالي السكان عام 1950.

ومع المتغيرات التي طرأت على النظام التعليمي المصري بعد ثورة يوليو عام 1952، سواء من حيث مضمونه التعليمي أو مضمونه الاجتماعي، وتوسيع نطاق المجانية فيه مرحلة بعد أخرى حتى طال المرحلة الجامعية عام 1962، فاندفع مئات الآلاف من أبناء الفقراء في الريف والمدن المصرية لإلحاق أبنائهم بهذا القطاع التعليمي حتى قارب عددهم 5.5 مليون تلميذ وتلميذة عام 1970، وقد تجاوز عام 2008 نحو 21 مليون طالب وطالبة في جميع مراحل التعليم ومكوناته وروافده، أي ما يعادل 27% من إجمالي السكان في البلاد.

ويبقى السؤال: كيف تغير الدور الوظيفي والاجتماعي للتعليم الأهلي في مصر خلال هذه المرحلة الطويلة (1952 – 2018)؟

مركز ومكانة التعليم الخاص في مصر

الحقيقة أن تأمل المحلل المدقق لهذا النوع من التعليم سوف يكتشف وجود مرحلتين أو فترتين مختلفتين جذرياً في أداء هذا القطاع التعليمي الخاص، سواء من حيث الدور أو المحتوى.

المرحلة الأولى: (1952 – 1974)

استمر وجود القطاع الخاص والأهلي خلال هذه الفترة باعتباره مكملاً– وليس بديلاً– للتعليم الحكومي، وقد تمثل هذا القطاع في مستويين:

المستوى الأول: المدارس الخاصة بالجاليات الأجنبية، ومدارس الراهبات والمدارس التابعة للجماعات الكنسية (الراهبات– الجزويت– الفرنسيسكان.. إلخ)

المستوى الثاني: المدارس الخاصة لأبناء الفئات الفقيرة الذين لم تستوعبهم المدارس الحكومية بسبب تواضع نتائج أدائهم في الامتحانات العامة في المرحلتين الإعدادية والمتوسطة.

يكفي أن نشير إلى أنه بحلول العام الدراسي 76/1977 كان عدد المدارس الحكومية في جميع مراحل التعليم نحو 12762 مدرسة، تضم نحو 6.7 مليون طالب وطالبة بخلاف المنخرطين في التعليم الأزهري بينما لم يتجاوز عدد المدارس الخاصة 678 مدرسة تضم نحو 150 ألف طالب وطالبة (26)، وهؤلاء لم يكونوا يشكلون سوى 2.0% من إجمالي الطلاب المنخرطين في التعليم بما في ذلك التعليم الأزهري، وكانت هذه المدارس موزعة بين المدارس الابتدائية (303 مدارس)، ومدارس إعدادية (242 مدرسة)، ومدارس ثانوية عام (121 مدرسة) وأخيراً مدارس ثانوي تجاري (12 مدرسة).

أما أستاذنا "الدكتور حامد عمار"، فيشير إلى أن عدد المدارس الخاصة في عام 70/1971 كان نحو 479 مدرسة تضم بين صفوفها 195 ألف طالب وطالبة، زاد عددهم عام 80/1981 إلى 627 مدرسة تضم في فصولها نحو 231 ألف طالب وطالبة (27)

وخلال هذه الفترة الانتقالية المهمة والخطيرة في تاريخ مصر السياسي والاجتماعي والاقتصادي حدثت خمسة تحولات مهمة غيرت من طبيعة المشهد في النظام التعليمي المصري، ومازالت تؤدي فعلها حتى اليوم وهي:

أولاً: بداية رفع الدولة راية الاستسلام البيضاء، وإنشاد المعزوفة الرسمية الخاصة بتخفيف العبء عن "ميزانية الدولة" بدءاً من دعم أسعار السلع والخدمات مروراً بالتعليم والصحة وبقية الخدمات الاجتماعية، ولم تنتهِ قط عند مخصصات قوات الأمن والشرطة والدفاع.

ثانياً: وتبع ذلك حالة من الإهمال– شبه المتعمد– لإجراء تطوير في البنية التحتية لقطاع التعليم من بناء المدارس الجديدة، وصيانة القديمة وغيرها، ومع استمرار التزايد السكاني واندفاع الفقراء وأبناء الطبقات محدودة الدخل إلى إلحاق أبنائهم بالتعليم في الريف والمدينة، تكدست الفصول واستحال أداء عملية تعليمية معقولة، وإذا بنا في زلزال أكتوبر عام 1992 نواجه بحقائق مريعة، ذكرها بشجاعة– تحسب له– وزير التربية والتعليم الأسبق "د. حسين كامل بهاء الدين" وصفها بالكارثة حيث نصف المدارس (أي نحو 12 ألف مدرسة) غير صالحة للاستخدام الإنساني، وغير ملائمة للقيام بعملية تعليمية مناسبة على الإطلاق (28).

ثالثاً: تزامنت مع هذا تحولات إقليمية ودولية ركزت الثروة لدى الدول العربية النفطية بعد عام 1974، وبداية هجرة مئات الآلاف من المصريين إلى حلم علاء الدين النفطي حتى تجاوز عدد المصريين الذين تحركوا خلال الفترة (1974- 1991) في منطقة الخليج وليبيا والعراق انتهاءً بالجزائر فيما بين 7 ملايين و9 ملايين مواطن مصري، وقاموا بتحويلات مالية بأشكال مختلفة (عينية– نقدية) زادت على 130 مليار جنيه مصري (29)، أنفق بعضها على إلحاق أبنائهم في المدارس الخاصة والتعليم الخاص عموماً.

رابعاً: تلاعب الدولة المصرية– ممثلة في وزارة التربية والتعليم– بمبدأ مجانية التعليم ذا الطابع الدستوري، الذي تمثل في بداية توسعها فيما يسمى "المدارس التجريبية بمصروفات" منذ عام 1979، وإجـبار أولياء الأمور على دفع "تبرعات" نقدية أو عينية للمدارس نظير أداء خدمات قبول أبنائهم، أو إجراءات نقلهم من مدرسة إلى أخرى، والصمت على ذلك خاصة في الفترة التي سبقت تولي "د. حسين كامل بهاء الدين"، مسئولية تلك الوزارة (عام 1991)، فأصبح الأمر متساوياً لدى كثير من أولياء الأمور بين المدرسة الحكومية المجانية– شكلاً– دون تعليم حقيقي، أو المدارس الخاصة الباهظة المصروفات مع إمكانية تلقي أبنائهم تعليماً معقولاً ومناسباً.

خامساً: وفي نفس الوقت اتبعت الدولة سياسة تشجيع وتسهيل الاستثمار الرأسمالي في التعليم، سواء في المرحلة قبل الجامعية، أو في التعليم العالي بمصروفات (المعاهد العليا) التي زاد عددها على 114 معهداً عام 2006، وبداية افتتاح أقسام باللغات الأجنبية داخل الكليات الحكومية مقابل مصروفات باهظة، وتوج الأمر بإصدار القانون رقم (101) لسنة 1992 الذي سمح بإنشاء الجامعات الخاصة، فزاد عددها من جامعة واحدة (الجامعة الأمريكية) إلى 16 جامعة عام 2008، ثم إلى ما يقارب الـ22 جامعة، وجرت أكبر وأخطر عملية "إزاحة اجتماعية" من التعليم العام إلى التعليم الخاص والاستثماري.

لقد شكلت هذه العوامل الخمسة مجتمعة ومتزامنة ومتكاملة، آليات الدفع لتعزيز مكانة التعليم الخاص الرأسمالي الطابع والهادف للربح، فزاد عدد المنخرطين فيه عاماً بعد آخر وزاد عدد مؤسساته التعليمية بصورة كبيرة كما سنعرض في المقال القادم.

إهــــداء.. إلى روح أستاذ الأجيال. د. حامـــد عمار

إعلان