إعلان

قراءة في إحدى الوثائق السرية لتفكيك اقتصاد مصر

قراءة في إحدى الوثائق السرية لتفكيك اقتصاد مصر

د. عبد الخالق فاروق
09:00 م الخميس 02 نوفمبر 2017

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

بدأ الرئيس السابق "أنور السادات" مرحلة جديدة في تاريخ مصر والمنطقة العربية بعد حرب أكتوبر عام 1973، سواء على الصعيد الاقتصادي؛ فزادت العلاقات مع المؤسسات الاقتصادية والتمويلية الدولية؛ أو على الصعيد السياسي، حيث تحولت بوصلة العلاقات السياسية والاقتصادية الدولية لمصر تحولاً جذرياً في اتجاه التحالف مع الولايات المتحدة خصوصاً والغرب الأوروبي عموماً.

وخلال هذه الفترة الطويلة (1974 وحتى يومنا) لم ينقطع سيل التقارير والدراسات الموضوعة من جانب هذه المؤسسات التمويلية الدولية خاصة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي عن الأوضاع الاقتصادية في مصر، علاوة على ما تعده السفارة الأمريكية وذراعها الاقتصادية (المعونة الأمريكية U.S. Aid)، من تقارير ودراسات؛ بعضها منشور ومعلن، والكثير منها غير منشور؛ تتداوله الأجهزة المتخصصة؛ وتدور مناقشته في دوائر ضيقة من المسئولين في الطرفين.

وبرغم كثرة هذه التقارير والدراسات التي تتجاوز 160 تقريراً عن الأوضاع في مصر من كافة الجوانب؛ هذا بخلاف الأبحاث والدراسات المشتركة التي كانت تمولها مؤسسات أكاديمية وغير أكاديمية أمريكية وغربية، ويتولى القيام بها أكاديميون مصريون، ومراكز أبحاث مصرية لصالح هذه الجهات الأجنبية؛ التي تجاوزت 176 بحثاً مشتركاً خلال الفترة (1974- 1989)، وهو ما سبق وتعرضت له بالتفصيل في كتابي المعنون "مصر وعصر المعلومات" الصادر طبعته الأولى عام 1991 وطبعته الثانية عام 2000، بيد أن بعض هذه التقارير السرية تشغل أهمية خاصة وتعبر عن نقطة فارقة في تاريخ مصر الحديث.

وأبرز التقارير السرية أعدتها فرق بحث من البنك الدولي وإداراته المتخصصة مطلع عام 1991، وتضمنت ليس فقط تحليلاً تفصيليًا للإجراءات الملزمة للحكومة المصرية الواجب تنفيذها في إطار صفقة ما سمي برنامج الإصلاح الهيكلي structural Readjustment، التي أعقبت مشاركة النظام المصري تحت قيادة الرئيس المخلوع (حسنى مبارك)، في تدمير وحصار العراق بعد غزو وضم الأخير "إمارة" الكويت في أغسطس من عام 1990.

ولعل مراجعة الاعترافات الخطيرة التي نشرها رجل الاستخبارات الاقتصادي الأمريكي "جون بيرجنز" في كتابه المهم "اعترافات قرصان اقتصادي" الصادرة طبعته العربية عن دار الطناني عام 2004، تشير إلى علاقة توريط الحكومات والأنظمة العربية وغير العربية، في مصيدة الديون، تمهيداً للسيطرة على قرارها السياسي الاستراتيجي، وهو ما ينطبق انطباقاً مذهلاً على حالة مصر في عهدي الرئيسين "السادات" و"مبارك".

ومن أمثلة هذه التقارير في بداية عقد التسعينات ذلك التقرير المعنون : 

Country economic Memorandum:" Economic Readjustment with Growth""

والمرقم (7447 ـ مصر) والصادر في الثاني من فبراير عام 1990 والمذيل بالعبارة المعروفة “للاستعمال الرسمي فقط"، أو بمعنى آخر التداول في دائرة ضيقة والذي تضمن عدة نتائج ومطالب أبرزها:

1-تعديل سعر الصرف للعملة المصرية (أي تخفيض قيمة الجنيه).

2-سياسات دعم القطاع الخاص.

3-تعديل سياسات التسعير للسلع والخدمات كالمنتجات الصناعية، والمنتجات الزراعية، والطاقة الكهربائية وغيرها.

4-قصر الاستثمارات العامة على البنية الأساسية والصيانة.

5-إصلاح الشركات العامة من خلال خفض مخصصات دعمها الحالى (جرى بعدها إصدار القانون 203 لسنة 1991).

6-تغيير السياسات الزراعية بما يسمح بتحرير أسواق مدخلاتها ومنتجاتها.

7-سياسات الاستقرار المالى وضبط معدلات التضخم وعجز الموازنة العامة... إلخ.

8-إدارة المالية العامة من خلال خفض النفقات الحكومية وزيادة الإيرادات الضريبية.

9-إعادة النظر فى سياسات الائتمان والإقراض.

10-وكذلك السياسات الاجتماعية من خلال خفض الدعم والضمان الاجتماعى.

وقد تحقق فعلاً خفض متوسط الأجور خلال الفترة (1982-1987) بحوالي 10٪ بالمعنى الحقيقي، بسبب زيادة نسبة الاستقطاعات من الأجور والمرتبات بمعدل 30٪ فى صورة تأمينات على الأجور المتغيرة وضريبة كسب العمل وضريبة الدمغة وغيرها من صور الاستقطاعات. 

على أية حال فى سياق هذه المعطيات المصرية الخاصة بالمديونية الخارجية الهائلة التى تجاوزت 57.5 مليار دولار والاتفاق الذي تم مع دول نادى باريس والغرب لتخفيض هذه المديونية بمقدار النصف مقابل مشاركة مصر فى حصار وتدمير العراق والحرب ضدها فيما سمي "حرب تحرير الكويت"، جاءت البعثة الجديدة للبنك الدولى فى يونيو 1991 وضمت في عضويتها السادة: 

1- الدكتور دان جوردان Dean Jardan مدير الفريق.

2- سارشار خان Sarshar Khan نائب مدير الفريق من أصل باكستانى.

3- أحمد جلال، موظف البنك من أصل مصري، سيشغل بعد سنوات مدير مركز الدراسات الاقتصادية التابع للحزب الوطنى الحاكم.

4- خالد شريف أحد الاقتصاديين المصريين.

5- على أبو أكيل.

6- انتونى ادواردز Anthony Edwards مستشار الفريق.

7- شريف الديوانى مستشار.

8- باجى بونيلل Peggy Bonnell لأعمال السكرتارية.

وأجرت هذه البعثة لقاءات عدة مع كبار المسئولين المصريين بدءاً من د. عاطف صدقى رئيس الوزراء والدكتور كمال الجنزوري (نائب رئيس الوزراء ووزير التخطيط)، مروراً بعاطف عبيد وزير رئاسة مجلس الوزراء والتنمية الإدارية ورجل النظام القوى في ذلك الحين.

وعلى الفور جرى فتح خزائن المعلومات والبيانات التفصيلية لمدة شهرين كاملين حول الأوضاع الاقتصادية والتشريعات الاقتصادية السارية في البلاد، وقد انتهت اللجنة من إعداد أول تقاريرها السرية الخطيرة فى الثامن والعشرين من أكتوبر عام 1991 تحت عنوان "دراسة القواعد التنظيمية للقطاع الخاص والبيئة المحفزة "

"Private Sector Regulatory and Incentives Environment Study" 

والمرقم ( 10049- EGT )

ويبدو أن ما تضمنه التقرير الرئيسى من التزامات مطلوبة من الجانب المصرى كان صادما وقاسيا؛ فأوفدت الحكومة المصرية التي كان يرأسها وقتئذ الدكتور عاطف صدقي وزير شئون مجلس الوزراء “وطباخ السم كله"، د. عاطف عبيد، لزيارة واشنطن في يوم الجمعة الموافق السابع عشر من شهر يناير عام 1992 للاجتماع مع مسئولي البنك الدولى فى شئون الشرق الأوسط والأدنى لمناقشتهم فى إجراءات التصحيح (التفكيك) المطلوبة الواردة في هذا التقرير، ومطالبتهم بزيادة المدى الزمنى المطلوب لتنفيذ هذه الإجراءات القاسية.

ووفقاً لمبدأ الطرق على الحديد الساخن ليكون طيعاً أكثر؛ صدر الجزء المكمل لهذا التقرير فى الثالث والعشرين من يناير عام 1992 متضمناً "التقرير التنفيذى الأول" Executive Report ، وبالنظر لضخامة صفحات التقارير؛ فقد قام الدكتور عاطف عبيد بإرسال نسخة من هذه التقارير إلى أحد الأجهزة المركزية التابعة له من أجل إعداد ترجمة متكاملة عنه مشفوعة طبعاً بتحذيرات عديدة بشأن منع تسرب محتوياته.

ولم يكن الرجل يعلم أننى واحد من الفريق الذى سيتولى ترجمته ليطلع عن قرب على أخطر الوثائق التى وجهت وحركت السياسات الاقتصادية للنظام والحكم فى مصر طوال العشرين عاماً اللاحقة. وهكذا وقع التقرير فى يدى.. 

ولكن السؤال: ما هى هذه التوصيات الملزمة التى وضعها موظفو البنك الدولى وسار على هديها الرئيس مبارك ووزراؤه طوال عشرين عاماً فأوصلت البلاد إلى ما آلت إليه؟

إعلان