إعلان

"لا تشغل البال بماضى الزمان" ..

د.هشام عطية عبدالمقصود

"لا تشغل البال بماضى الزمان" ..

د. هشام عطية عبد المقصود
09:01 م الجمعة 20 ديسمبر 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

الحكمة ضالة البشر..

في الغناء الفذ لقصيدة عمر الخيام والتي ترجمها الشاعر أحمد رامي، كاتب الأغنيات الأثير والأكثر حظا وحضورا لدى السيدة أم كلثوم؛ لتشدو بعذوبة وشجن معا "لا تشغل البال بماضي الزمان ولا بآتي العيش قبل الأوان"، وربما هنا في هذا المقطع البهي تكمن محنة ونجاة الإنسان معا، عند الالتفات إلى الماضي استغراقا ومكوثا سواء حنينا أو ألما وحزنا، وبالتزامن معه التفكير المستغرق وربما حمل هموم ما سيأتي دون أن تعلم به وكأنه أصبح واقعا، تلك المساحة الوسطي تماما الصحية والآمنة في العيش طمأنينة وهي ما ندرك ونعيش، وبأن اليوم هو الحياة التي تعرف وعليك أن تهنأ بها، وأن ما مضى قد فات وأن ما سيجيء ليس بعد بحاضر، دون أن يتقاطع ذلك تعارضا مع الاجتهاد والأمل بأن "تعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا".

وحيث يمنح التفكير في الزمان الماضي ثباتا عند حيز ما لا يتجاوزه الفكر والهمة، ويجعل خطو الحاضر وئيدا، ناهيك عن أن يكون هناك ذلك التطلع للقادم المنشغل به تخوفا وترقبا وأملا وطمعا أيضا بما يثقل أحمال كتفيك حاضرا وأوانا.

إذ يمنح الوقوف عند حد الخوف أو الترقب القلق مما هو قادم، أو حتى الطموح المبالغ فيه في الآتي إرهاقا يحول دون التلذذ بثمار ما يجنيه الإنسان حاضرا، والوقوف في ساحته قليلا مستمتعا مسترخيا، قبل أن يبدأ الخطو من جديد، إنها حالة الرضا والنظرة الشاكرة على ما تدرك وتعرف، ويبدأ أوان الحزن ثقيلا بتلهي الإنسان عن كل ذلك بما لم يأت ومراوده ثلة العصافير المحلقة على الشجر، التي هي دوما مراوغة، إذ تبدو في المتناول بينما هي بعيدة تماما هناك، وكما الظمآن إذ يطارد السراب ويمضي معه فلا ينتهي الأمر، وحالة الرضا هي دوما قفز خارج تلك المدارات المرهقة كأنها النجاة أو الحكمة التي تؤتي خيرا كثيرا.

ذلك الكائن ..

نشرت صحيفة الشرق الأوسط تقريرا في 13 ديسمبر الحالي نقلا عن وكالة العلوم الوطنية الأسترالية أنه "وباستخدام ودراسة الجينوم البشري، وجد الباحثون أن الحد الأقصى الطبيعي لعمر الإنسان هو 38 عاماً، وهو ما يطابق التقديرات الأنثروبولوجية لعمر الإنسان لدي أوائل "أسلاف" البشر المعاصرين، ويقول التقرير المترجم إن زيادة عمر الإنسان الحالية هي نتيجة تقدم مستويات المعيشة والطب.

وهكذا عاش الأجداد القدامى للإنسان المعاصر، في اختلاف مع التقدير الغريب لأعمارهم والذي حملناه في وعينا صغارا، وتمدد معنا زمنا بأن الأقدمين كانوا يعيشون طويلا جدا ومعمرين بما يفوق متوسطات العمر المعاصرة، وهي نظرة سادت إلى المصريين القدماء فوثبت في مدركاتنا ربما تماهيا وتناصا مع سير تاريخ بعض الملوك المصريين القدماء كما قرأنا عنهم في الكتب بأنهم معمرون مثل رمسيس الثاني الذي عاش تسعة وتسعين عاما.

ما يقوله التقرير عن التغذية والطب يمكن أن نطلق عليهما العمل في مجال "الأسباب"، التي هي شأن وشاغل البحث العلمي، فباكتشاف الأدوية والعلاجات واستنباط سلالات من النباتات تعيش وتنمو في بيئات جغرافية، وترويض بعض جوانب الطبيعة في المناخات الحارة تمامًا والباردة تماما، مثل كل ذلك سعيا فيما أتاحه الله للبشر للعمل في نطاق ومجال الأسباب.

ودلالة ذلك الاكتشاف في الجينوم البشري ربما يكون أن الإنسان في فطرته تلك وطبيعته الأولى تلك كان يحيا أيام فتوته ثم يمضي وهو كذلك لم يفقد منها شيئا كثيرا، وليس مستعينا على قضاء أيامه بغير ما يخرج عن طبيعته ونسقه الجسماني، وربما هكذا عاش الإنسان قديما سعيدا، ولم يختبر قط الشيخوخة التي يتغلب علي إزعاجها كثير من المتفائلين بمهدئات المقولات من مثل "إن الحياة لم تبدأ بعد" وما يشبه ذلك، وربما صاغ الفكرة جذابة الروائي الكبير والمعمر أيضا نجيب محفوظ في ملحمته الفريدة الحرافيش في حوار قصير رشيق دال "السعداء حقا من ينعمون بشيخوخة هادئة، فقال بتحدٍ: السعداء حقا من لا يعرفون الشيخوخة".

يوم من الأيام ..

يوم عادي جدا، وعندما يبلغ المساء غايته، قد تتأمل مليا في تفاصيله التي غادرتك، وربما تأخذك الدهشة، أنك اليوم فعلت شيئا عاديًا جدًا وبسيطًا تمامًا، لكنه غير مكرر أو معتاد في ناموس يومك، فتفكر كيف أنه رغم بساطته العادية – تذوق القهوة بطعم البندق أو الشاي بنكهة الخوخ مثلا – كنت تحجم عن تجربة ذلك غير متقبل، بل وتأخذ موقفا رافضًا تمامًا، إذ تعتبر ذلك خلطا في ذائقة الأشياء كما توارثتها الأجيال وأرخت لها سيرتهم وحكاياتهم، ثم ها أنت لا تجد في الأمر ما يزعج، وربما يأخذك التفكير بعيدا في الزمان والتواريخ المتناثرة، عن تلك الأشياء وكم المرات التي حالت بينك وبين اقتحام وخوض الجديد؛ لتطرح الأمر في تساؤل متمهل هل تقل المبادرة وجرأة اقتحام الجديد مع الوقت أم أنها جزء من تكوين الإنسان يقبع في مكان ما في عقله ويظل ينمو معه ليبقي يقينا وسلوكا ثابتا؟!.

إعلان

إعلان

إعلان