إعلان

التَنْشِئَةُ السَّوِيَّة مَطْلَبٌ آكِدٌ فِي وَثِيقةِ الأُخُوَّةِ الإِنْسانِيَّةِ

د. أميرة رسلان

التَنْشِئَةُ السَّوِيَّة مَطْلَبٌ آكِدٌ فِي وَثِيقةِ الأُخُوَّةِ الإِنْسانِيَّةِ

08:11 م الأربعاء 03 فبراير 2021

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

بقلم د.. أميرة رسلان

عُضو هيئةِ التدريسِ بجامعةِ الأزهرِ

وعضو مركز الأزهر العالميّ للفتوى الإلكترونية

فِي الرابع مِن فبراير مِن كلِّ عامٍ يَشهدُ العالَمُ الإنسانيّ احتفالًا حقيقيًّا بميلادِ وثيقةِ الأُخوّةِ الإنسانيةِ، التِي انْطلقتْ لمصلَحةِ البشريَّةِ، فِي المؤتمرِ الذي نظَّمَهُ مجلسُ حكماءِ المسلمين فِي فِبراير 2019 ميلادية عَلى أرضِ الإِماراتِ العربيةِ المتَّحدةِ؛ بِهدفِ تعزيزِ سُبُل التَّعايُشِ المشتركِ، ودَعْمِ العلاقاتِ الإنسانيةِ بينَ بنِي البشرِ أجمع بمختلفِ أطيافِهم وخلفياتِهم الدينيةِ واللادينيةِ.

وينطلِقُ ماراسُون تفعيلَ هذه الوثيقة وتطبيقِها علَى أرضِ الواقعِ مِن مُدارسةِ بنودِها، وبَذلِ الجهودِ للوصولِ لمجتمعٍ إِنسانيٍّ، بكلِّ ما تحملُهُ الكلِمةُ من معانٍ ساميةٍ ، وَيُعدُّ الاهتمامُ بالأُسرةِ أحدَ البنودِ المُهمَّةِ فِي وَثِيقَةِ الأُخُوةِ الإنسانيةِ؛ حيثُ نصَّتْ عَلى ( ضرورةُ الأُسرَةِ كنَواةٍ لا غِنى عنها للمُجتمعِ وللبشريَّةِ، لإنجابِ الأبناءِ وتَربيتِهم وتَعليمِهم وتَحصِينِهم بالأخلاقِ وبالرعايةِ الأُسريَّةِ، فمُهاجَمةُ المُؤسَّسةِ الأسريَّةِ والتَّقلِيلُ منها والتَّشكيكُ في أهميَّةِ دَوْرِها هو من أخطَرِ أمراض عَصرِنا) .

فالأسرةُ هِي اللَّبِنَةُ الأُولى فِي بِنَاءِ المُجتمعِ، وبناءٌ عَلَى صَلاحِها وقِيمتِها يكونُ بِناءُ الأفرادِ، وَقدْ عُنيتْ الأديانُ السماويةُ بالأسرةِ وأولَتْها عنايةً بالغةً، وبَنَى الإسلامُ الزواجَ- وهُو الأساسُ الأول لبناءِ الأسرةِ – على (المودة والرحمة)؛ لتحقيقِ الاستقرارِ الأُسريّ، كَما أحاطَ الحياةَ الزوجيةَ بكثيرٍ من الضماناتِ، حفاظًا علَى الاستقرارِ وسلامةِ النشْءِ.

ومِن مظاهرِ عنايةِ الإسلامِ بالأسرةِ تنظيمِه لعلاقةِ الآباءِ بالأبناءِ؛ حيثُ أوجبَ علَى الوالدينِ الإحسانَ إلى أبنائِهم بِما يُحقِّقُ الخيرَ والصلاحَ لَهُم ولمجتمعِهِم، واستشعارُ المسؤوليةِ في هذا الأمر، انطلاقًا مِن قوله صلى الله عليه وسلم "((كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤول عَنْ رَعِيَّتِهِ، الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْؤولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ ومَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، -قَالَ: وَحَسِبْتُ أَنْ قَدْ قَالَ: وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي مَالِ أَبِيهِ وَمَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ- وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ))- أخرجه البخاري ومسلم-، ولعنا نلاحظ إفراد الخبر في قوله صلى الله عليه وسلم (كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤول) فلم يقل: (كُلُّكمْ رَاعُون وَكُلُّكُمْ مَسؤُولُون )؛ لِكيْ تَتَحدَّد مَسؤوليةُ كل فردٍ عَلى حِدةٍ، والمعنى: كلُّ فردٍ مِن أفرادِ الأُمَّةِ راعٍ، وكلُّ فردٍ من أفرادِ الأُمةِ مسئولٌ عَن رعيَّته، وقد بينتْ التوجيهاتُ الشرعية للأبوينِ هذا الدَّوْر، يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا )،سورة التحريم آية(6).

وتقومُ تربيةُ الأبناءِ علَى ركائزَ عدَّة، حتَّى تُؤدِي التنشئَةُ دَوْرِها فِي الارتقاءِ بالأُسرةِ، ومِنْ ثَمَّ الارتقاءُ بالمجتمعِ الإِنسانيّ:

الركيزة الأولى : التنشئةُ الرُّوحيَّة:

وتتحققُ بربْطِ شعورِ الطِّفلِ مُنذُ نشأتِهِ بتوجيهاتِ اللهِ تَعالى، فـ (من شَبَّ على شيءٍ شابَ عليه)؛ وفيه ضمانُ صلاحِ المجتمعِ والعالَم، والدينُ الإسلاميّ ملِيءٌ بالتوجيهاتِ التِي تلفتُ نظرِ المربينَ إلى ضرورةِ التنشئةِ الرُّوحيةِ للطفلِ ، فجاءَ التوجيهُ النبويُّ لتعليمِ النشءِ كتابِ الله فوردَ حَديثُ أَبُو عُبَيْدَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ ، قَالَ : بَلَغَنِي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَنَّهُ قَالَ : " عَلِّمُوا أَوْلادَكُمُ الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ أَوَّلُ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُتَعَلَّمَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ هُوَ "، ومن هذا الباب أيضًا وجوبُ تعليمِ الوالدينِ أولادَهما الصلاة؛ لأنَّ في المحافظةِ عليْها حفظًا للأخلاقِ والسلوكِ، ففي القرآن الكريم يقولُ تعَالى : (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا)- سورة طه،آية 132-، ووجه النبيُّ صلى الله عليه وسلم الآباءَ لذلِك، فقالَ: « علِّموا أولادَكُمُ الصلاةَ إذا بلَغُوا سبعًا ، واضربوهم عليها إذا بلغوا عشْرًا ، وفرِّقُوا بينهم في المضاجِعِ»- حديث صحيح، فالتعويدُ على الصلاةِ منذُ الصغرِ لهُ دورهُ المهمُّ في بناءِ مراقبةٍ داخليةٍ على السلوكِ والتصرفاتِ التي حتْمًا تنعكسُ على تعاملاتِ الإنسانِ مع غيرِه الإنسانِ، يقولُ تعالَى: ( وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ) العنكبوت آية 45-، وبذلكَ تحققُ الصلاةُ أهدافَها التربويةَ جَنبًا إلى جنبٍ مع الأهدافِ الرُّوحيةِ، والأمرُ ينسحبُ إلى جميعِ العباداتِ والعاداتِ الحسنةِ التي ينبغي أنْ تُغرسَ في النشءِ وهُمْ صغارًا فتتأصلُ في نفوسِهِم وهُمْ كِبَارًا، وهذَا بالضبطِ ما أكَّدَتْه وثيقةُ الأخوةِ الإنسانيةِ، ودعتْ إليه، وهُو (أهميَّةِ إيقاظِ الحِسِّ الدِّينيِّ والحاجةِ لبَعْثِه مُجدَّدًا في نُفُوسِ الأجيالِ الجديدةِ عن طريقِ التَّربيةِ الصَّحِيحةِ والتنشئةِ السَّليمةِ والتحلِّي بالأخلاقِ والتَّمسُّكِ بالتعاليمِ الدِّينيَّةِ).

الركيزة الثانية: التنشئة الخُلُقية:

وفي هذا السياقِ ينبغي التنبيهُ على الدَّوْر المهمِّ الذِي تقومُ به الأسرةُ في تهذيبِ وتقويمِ النشءِ، وتنميةِ الفضائلِ التي تُؤدِّي إلى نشْرِ مكارمِ الأخلاقِ كالرحمةِ والرفقِ والعطفِ والإيثارِ بين الناسِ، باعتبارِ أنَّ الأسرةَ هِيَ المدرسةُ الأُولى التي يتلقَّى فِيها أفرادُها تعَاليمهُم الأوليَّةُ، وتشكِّل نشأتَهُم حسْب المادة التي يتلقوْنَها في هذه المدرَسة، وعليه؛ لابُدَّ أن تُراعَى فيها الآدابُ القَوِيمةُ والأخلاقُ الحميدةُ؛ لتسيرَ عجلةُ هذه الأسرةِ نحوَ المنهجِ السويِّ السليمِ.

ولقدْ عمِلتْ التعاليمُ الإسلاميةُ على تنميةِ الروابطَ بينَ أفرادِ الأسرةِ في إطارٍ مِن الاحترامِ والمودةِ والمحبةِ، وقيامِ كلِّ فردٍ بواجبهِ نحْو الآخرِ، فقد وصفتْ عائشة رضي الله عنها أخلاقَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بقولها:(كانَ خُلُقُهُ القرآن)، والمنهجُ الربانيُّ في هذا الباب يدعُو المربينَ إلى نشْرِ الأخلاقِ الفاضلةِ عن طريقِ الأسرةِ الصغيرةِ التي مِن أهمِّها:

• لِينُ الحديثِ وطَيِّبهِ، والاحترامُ المتبادَلُ بينَ أفرادِ الأسرةِ: لما لهُ مِن بالغِ الأثرِ في استجلابِ النفوسِ، ونشرِ جوِّ الوُدِّ والرحمةِ، ورد عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كنَّا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عنده جميعًا، فأقبلتْ فاطمةُ ابنته رضي الله عنها، فقال: مرحبًا بابنتي، ثم أجلسها عن يمينه.." - متفق عليه-، فهذا الترحيب والتوسيع ونحوهما في المجلس يوثِّق الروابطَ داخلَ الأسرةِ.

• إرساءُ شعورِ التعاطفِ والتراحمِ والعملِ برُوح الفريقِ داخلِ الأسرةِ: فعن الأسود رضي الله عنه قال: سألت عائشة رضي الله عنها: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته؟ قالت رضي الله عنها: يكون في مهنةِ أهلِه؛ أي: في خدمتهم، فإذا حضرتْ الصلاةُ خرجَ إلى الصَّلاةِ"- أخرجه البخاريُّ.

• الحرصُ علَى عدمِ إظهارِ الخلافاتِ العائليةِ أمامَ الأطفالِ، وإبعادِهم عن جوِّ المشاحناتِ والبغضاءِ، لما قدْ يظهرُ في مثلِ هذه الأجواءِ من تطاولٍ وارتفاعِ الصوتِ وغيره مِن التصرفاتِ التي تنعكسُ سلبًا على الناشِئةِ، وعليه ينبَغي نشرُ خُلقِ الرفقِ في البيتِ؛ حيثُ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يا عائشةَ ! ارْفُقِى ؛ فإنَّ اللهَ إذا أرادَ بأهلِ بيتٍ خيرًا أدخلَ عليهِمُ الرِّفقُ) -أخرجه أحمد-، ولا شَكَّ أنَّ هذا مِنْ أسبابِ السعادةِ المنشودةِ، فالرفقُ يكونُ في الكلامِ والتعاملِ على حدٍ سواءٍ، فلا فوضَى أو تطاول، بل رحمةٍ ورفِقًا.

• احترامُ المتحدثِ وحسْنِ الإنصاتِ لحديثِهِ، وترْكُ مقاطعتِهِ ومجادلتِهِ؛ لأن الفوضى والمقاطعةَ الجدليةَ العقيمةَ تُزيدُ من التشتتِ النفسيِّ للناشئةِ، وتُخرجُ للمجتمعِ نَتاجًا أنانيًّا أُحاديًّا لا يتقبَّلُ الآخرَ، ولا يسمعُ سِوى صوتِ نفسِه، وفي هذا السياق ينبغي أن يكونَ لأهلِ البيتِ جلسةٌ دوريةٌ يتجاذبون فيها أطرافَ الحديثِ، فهِي مما يؤلِّفُ القلوبَ ويجمعُهَا، ويصفِّي النفوسَ ويهذِّبُها، ويعوِّدُ الأبناءَ على ثقافةِ الحِوارِ، واحترامِ الرأيِ والرأيِ الآخر.

• التغافلُ عن زلَّاتِ بعضِهم، فإنَّ الخطأَ مِن طبيعةِ بني آدمَ، وبذلكَ نُخرج إلى المجتمعِ ناشئةً مرِنةً، دونما جفاءٍ أو غلظةٍ.

• التركيزُ على بناءِ العَلاقةِ الإيجابيةِ الانسجاميةِ بينَ أفرادِ الأسرةِ الواحدة، وذلكَ عنْ طريقِ دوامِ التعبيرِ عنْ المحبَّةِ بالكلمةِ والسلوكِ، والسماحِ لكلِّ فردٍ بتقديمِ نفسِه، وشرحِ تصرفاتِه دونَ مصادرةِ رأيِهِ باستمرارٍ، والعملِ على توجيهِهِ برحمةٍ وقبولِهِ كما هُو بأخطائِهِ وليسَ بإنجازاتِه.

إلى غير ذلك من الأخلاقِ القويمَةِ التي قدْ لا يتَّسِعُ المقامُ لذِكرها، وفي هذا الصدد ينبغي الإشارةُ إلى أن التنشئَةَ السليمةَ أساسٌ سليمٌ لمجتمعٍ قويمٍ؛ وقد تمتدُّ هذهِ الأخلاقُ إلى مجتمعهِم الأُسَريِّ الكبيرِ وإلى الأصدقاءِ وذَوي القُربى في الرحمِ والوطنِ والإنسانيةِ، وبذلك يتحمَّلُ الأفرادُ المسؤولياتِ المنوطةَ بهم، ويتحقّق التعاونُ بين عناصرِ المجتمعِ الإنسانيِّ على أداءِ الواجباتِ.

الركيزةُ الثالثة: التنشئةُ الاجتماعيةُ:

يجبُ تنشئةُ الطفلِ اجتماعيًا علَى التفاعلِ الاجتماعيِّ، وإكسابُ الطفلِ سلوكًا ومعاييرَ واتجاهاتٍ تُسايرُ الجماعةَ وتتوافقُ معَها، وهكذا يتحولُ الطفلُ منْ كائنٍ أُحاديٍ إلى كائنٍ اجتماعيٍ، وقد أكدتْ الشريعةُ الإسلاميةُ على ضرورةِ تنظيمِ العلاقةِ بين الأفرادِ في المحيطِ الأسريِّ أو على المستوى الإنسانيِّ، يقول تعالى " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ" الحجرات آية(49)، فالنداءُ لجميعِ الناسِ على اختلافِ مذاهبِهم وأجناسِهِم، والقيمُ الإسلاميةُ تدعو إلى الترابُطِ الاجتماعيِّ، والتعاونِ الإنسانيِّ للنهوضِ بالضعفاءِ ومساعدةِ المحتاجينَ، والمُضِي قُدمًا برُوح واحدة،" فـ ((المُؤْمِنَ للمؤمنِ كالبُنْيانِ يشدُّ بَعضُهُ بعضًا))- أخرجه البخاري-، ومن هنا ينبغي التأكيد في تنشئة الطفلِ على ممارسةِ الأخلاقِ الاجتماعيةِ التي توطِّدُ علائِقِهِ بالآخر، ومن أهمِّها :

• خلقُ التعاونِ ما يَدفعُ إلى التراحمِ والتعاطفِ والشعورِ بالآخرين؛ لأنها تُعد مظهرًا إجتماعيًّا، بل إن هذه الأخلاقَ من أساسياتِ الإيمانِ التي دعَا إليها اللهُ ورسولُه، يقول تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}- سورة المائدة آية (2)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَن لا يَرْحَمِ الناسَ ، لا يَرْحَمْهُ اللهُ" -حديثٌ صحيح-.

• ضرورةُ التآخِي فيما بين أبناءِ المجتمعِ، ووجودُ هذه الأُخوة بينهم يقتضِي أن تنتفِي البغضاءُ من بينِهم، فلا يسيئُون لبعضِهم ولا يحسدُ أحدُهم الآخرَ، ولا فرقَ في هذا بين أبناءِ الديانةِ الواحدةِ أو غيرِها، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- - عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّه قال: "لا تَحاسَدُوا، ولا تَناجَشُوا، ولا تَباغَضُوا، ولا تَدابَرُوا، ولا يَبِعْ بَعْضُكُمْ علَى بَيْعِ بَعْضٍ، وكُونُوا عِبادَ اللهِ إخْوانًا.."- صحيح مسلم -، وفي حق غير المسلمين يقول تعالى: {لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين" سورة الممتحنة آية (8)، فهذه الوشائجُ المتينةُ عندما تنشأُ مع الطفلِ مُنذ صغَرهِ تنتفِي معها كلُّ مظاهرَ الإيذاءِ والعنفِ.

• تعليمُ الطفلِ آدابَ الكلامِ والاستماعِ والإنصاتِ وتدريبُه عليها، بالقدر الذي يمكننا من إخراجِ ناشئةٍ قادرةٍ على التحاور مع الآخَرِ، وتقبلهم دونما إقصاءٍ أو نبذٍ؛ وفي هذا البابِ تؤكدُّ الشريعةُ الإسلاميةُ على آدابِ التحاور، فيُنبِّهُنا الرسولُ صلى الله عليه وسلم إلى التَّرَيُّثِ قبلَ إطلاقِ الكلامِ، قائلاً:«مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ؛ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ» رَوَاهُ البخاريُ ومسلمُ، كما يُنَبِّهُنَا إلى أنَّ الكلمةَ الطيبةَ صدقةٌ: كَمَا أخْبَرَ بذلكَ النبيُّ الكريمُ صلى الله عليه وسلم، ورُبَّ كلمةٍ طيبةٍ أَبْعَدَتْ قائلَهَا عن النار، مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم: «اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقَّةِ تَمْرَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ شِقَّةَ تَمْرَةٍ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ» - رواهُ البخاريُ ومسلمُ-، وكَثْرةُ الكلامِ أيضاً مذمومةٌ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الثَّرْثَارُونَ وَالْمُتَشَدِّقُونَ وَالْمُتَفَيْهِقُونَ». قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَدْ عَلِمْنَا الثَّرْثَارُونَ وَالْمُتَشَدِّقُونَ، فَمَا الْمُتَفَيْهِقُونَ؟ قَالَ: «الْمُتَكَبِّرُونَ» حديث صحيح.

ومِنْ آدابِ التحاور أيضاً التي ينبغي أنْ يتعلَّمها الناشئةُ تركُ الجدال، يقولُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَنا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا» حسن - رواهُ أبو داودَ والتِرمِذِيُّ، ذلك لأنَّ الجَدالَ يُفْضِي إلىَ الخصومةِ والشِّقاقِ والوَحْشَةِ، ويَقْتَضِي ذلكَ الإنصاتُ للمتكلمِ وعَدَمِ مقاطعةِ حديثهِ، ومِنْ آدابِهِ أيضاً أن يُطهِّر لسانَهُ من الفُحش والبذاءةِ ولو مازحًا: روى الترمذيُّ - وحَسَّنَهُ - عن عَبْدِاللهِ بنْ مسعودِ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((ليس المؤمن بالطَّعَّان ولا اللعَّان ولا الفاحش ولا البذيء)).

ومِنْ هُنَا تَجْدُرُ الإشارةُ إلى أنَّ الإنسانَ يُعَدُّ كائناً اجتماعياً بفطرتِهِ وطبيعتِهِ، وهي حقيقةٌ ينبغي على المُرَبِّينَ وعْيَهَا؛ ليُؤَسِّسِوا العَلائِقَ الاجتماعيةِ للناشئةِ على أساسٍ متينٍ يضمنُ تَقَبُّلَ الآخرَ بوعيٍ، وقد أَكَّدَتْ وثيقةُ الأخوةِ الإنسانيةِ على هذا المعنى في قولها(... والتحلِّي بالأخلاقِ والتَّمسُّكِ بالتعاليمِ الدِّينيَّةِ القَوِيمةِ لمُواجَهةِ النَّزعاتِ الفرديَّةِ والأنانيَّةِ والصِّدامِيَّةِ، والتَّطرُّفِ والتعصُّبِ الأعمى بكُلِّ أشكالِه وصُوَرِه.) وبذلك يَنْشَأُ لَدَيْنَا جيلٌ واعٍ بالجوانب الروحيةِ والأخلاقيةِ والاجتماعيةِ كافة.

ومِنْ هُنا نُدْرِكُ مقدارَ سموَ العَلَاقَاتِ الإنسانيةِ التي دعتْ إليها وثيقةُ الأخوةِ الإنسانيةِ، وإِنَّ تطبيقَهَا سبيلٌ حقيقيٌ للعنايةِ بالخليقةِ، ورِعَايةِ المجتمعِ وحفظِهِ مِنْ نَزَعَاتِ التَّطَرُّفِ والأنانيةِ، والتعصبِ والإقصاءِ، لأن إهمالَ تأسيسِ العلاقاتِ الاجتماعيةِ ورعايتِها قَدْ عمَّق حالَةَ التفككِ، ووسَّع الفجوةَ بينَ النَّاسِ، وألْغَى التَّعاقبَ الفِكْريِّ بينَ الناشئةِ والآباءِ؛ لِذَا كانتْ هذهِ الوقفةُ الجادَّةُ مِن قادةِ العالمِ ضروريةً، وقد وافَقَها التوفيقُ والسدادُ.

وفي الختام أوصي بالآتي:

• ضرورةُ قيامِ المدارسِ بدورِها الحقيقيِّ في التنشئةِ جنبًا إِلى جنبٍ معَ الأسرةِ، عنْ طريقِ اختيارِ المعلمينَ المربينَ الناجحينَ تربويًا وعمليًا، وإقامةُ برامجَ تدريبيةٍ مستمرةٍ لتدعيمِ هذا الجَانبِ لديهم، مع فرْض رَقابةٍ صارمةٍ؛ لضمانِ تفعيلِ الدورِ التربويِّ، ووصولِ منفعتِه بأمانٍ فكريٍّ ونفسيٍّ للناشئةِ.

• التفعيلُ الجادُّ للدورِ الذي تقومُ به دُور العبادةِ، عن طريقِ الإعدادِ الجيِّدِ للدعاةِ القادرينَ على التعبيرِ عن تعاليمِ الأديانِ السمحةِ، والتأثيرِ الإيجابيِّ في الناشئةِ، وإيقاظِ الحِسِّ الديني لهم؛ لأنَّ الأجواءَ الرُّوحيةَ التي تتوفَّر في دُورِ العبادةِ لها دوْرها في غرسِ القيمِ النبيلةِ والتنشئةِ الدينيةِ والأخلاقيةِ، وتعضيدِ العلاقاتِ الاجتماعيةِ، ويكون ذلك تحتَ رَقابةٍ واعيةٍ مستنيرةٍ مِنْ أهلِ الاختصاصِ، حتى لا يحدثُ الاستقطابُ من أدعياءِ الدينِ، واستمالةِ الأطفالِ بالشعاراتِ الكاذِبةِ.

• مراقبةُ وسائلِ الإعلامِ كافةً، ومراجعةُ المحتوياتِ التي تُقدَّمُ للنشءِ، وفرضُ القوانينَ الصارمةَ على المخالفين، حتى لا يَقومُ المحتوى غيرُ المدروسِ والمراقبِ بتشويهِ العديدِ من القيمِ التي اكتسبَها الأطفالُ - في الأسرةِ ودورِ العبادةِ والمدرسةِ- فضلاً عن تعليمِهم القيَم الأخرى الدخيلةَ على الثقافةِ الأصيلةِ.

إعلان