إعلان

ليالي أوجيني.. عودة البطولة للنص والمخرج

د. أحمد عمر

ليالي أوجيني.. عودة البطولة للنص والمخرج

د. أحمد عبدالعال عمر
09:00 م الأحد 17 يونيو 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

" إن الدراما نصّ ومخرج، ثم يمكنك بعدها أن تبنى على هذا الأساس المتين من خلال العناصر الأخرى في إطار النص ومن خلال رؤية المخرج. وبدون عودة القيادة والصدارة للنص والمخرج لن تكون هناك أبداً دراما جيدة، لا في التليفزيون ولا في غيره".

هكذا تحدث الناقد الفني المتميز الأستاذ محمود عبدالشكور، صاحب أهم وأعمق القراءات النقدية في كلاسيكيات الدراما التليفزيونية المصرية، والتي حققت نجاحاً غير مسبوق نقدياً وجماهيرياً، وشكلت وعيَ ومشاعرَ أجيال سابقة، وافتقدنا حضورها في سوق الدراما التليفزيونية في مصر في العقد الأخير الذي انتشرت فيه أعمال درامية مهترئة وضعيفة من ناحية النص، ومتصدعة من ناحية البناء والإخراج، على الرغم من أنها صنعت نجاحاً جماهيرياً ونجومية زائفة لأبطالها، ساعد في تحققهما تشوه وعي المصريين ومعايير تذوقهم الجمالي في العقود الأخيرة، ثم ساعدت تلك الأعمال الرديئة بدورها في زيادة حجم ومقدار ذلك التشوه.

وأظن أن مسلسل "ليالي أوجيني"، من تأليف "إنجي القاسم" و "سماء أحمد عبدالخالق"، ومن إخراج "هاني خليفة" الذي تابعنا بشغف كبير حلقاته طوال شهر رمضان، قد أعادنا إلى أجواء الدراما التليفزيونية المتميزة، التي تقوم بالأساس على النص الجيد وقيادة ورؤية المخرج المتمكن الذي يستخدم كل الأدوات والإمكانات لتجسيد عوالم وشخصيات النص، وتوصيل رسائله المباشرة والضمنية، ودون أن يقلل هذا الرأي بالطبع من إجادة وبراعة أداء كل نجوم العمل.

فالنص المكتوب ببراعة شديدة قد حملنا إلى أجواء الثلاثينات والأربعينات في مدينة بورسعيد، حيث تجاورت الجنسيات والديانات المختلفة، وعاشت بسلام في سياق جمالي ورقي أخلاقي وسلوكي واضح. ولعل هذا الإطار الزمني والسياق الجمالي الراقي كان هو دافع أغلب المشاهدين في البداية لمتابعة العمل، لروعة الأجواء التي نقلنا إليها، وبراعة المخرج "هاني خليفة" في صنع كل تفاصيلها.

ثم زاد شغفنا بالمسلسل وأبطاله وعالمه بعد تصاعد أحداثه الدرامية، ببداية "قصة الحب المستحيلة" بين الدكتور فريد دربالة (ظافر العابدين) وكريمة أو كريمان شاهين (أمينة خليل)؛ وهي مستحيلة، لأنها- كما ذكرت في مقالي السابق عن المسلسل- قد جاءت في الزمن غير المناسب، ولأن بطليها كانا محملين إلى حد كبير -وبخاصة كريمة- بكل رواسب وتشوهات حياتهما السابقة قبل لقائهما، ولهذا كان فراقهما حتمياً، وجعل كلاً منهما ضحية لظروفه، وضحية لصاحبه، وجانياً عليه في الوقت ذاته.

وقد تصاعد هذه الخط الدرامي في الحلقتين الأخيرتين من المسلسل بشكل أبرز براعة النص المكتوب بحرفية شديدة، وقدرة المخرج على الاهتمام بالتفاصيل وصنعها، واستخدام وتحريك كافة الإمكانات والأدوات المتاحة لخدمة النص والوصول لذروته الدرامية، وإبراز عمق وثراء الحوار فيه.

وقد جعلني هذا التصاعد الدرامي أعود إلى أجواء التراجيديات اليونانية القديمة، وأستدعي أبطالها ومعاناتهم، لأربطها بأبطال "ليالي أوجيني" ومعاناتهم؛ فـبطلة المسلسل الجميلة كريمة (الفنانة أمينة خليل) هي الجميلة "هيلين" الزوجة الخائنة التي تسببت في حرب طروادة، والتي نعشقها ونكرها، ونحتار في أمرها، فلا نستطيع معرفة هل هي ضحية أم جانية.

وزوج فريدة القاسي الفظ إسماعيل (الفنان يوسف إسماعيل) الرجل الإقطاعي ذو الثراء الشديد، الذي اختارته - وتلك من تناقضات شخصية كريمة – وتركت لأجله خطيبها الشاب العاشق لها، هو مينلاوس زوج هيلين وملك إسبرطة، الذي جيش الجيوش لاستردادها من طروادة، والذي ظل دائماً متيماً بها، وعلى استعداد لأن يغفر لها كل خطاياها في حقه، لو أظهرت فقط حبها له، ورضيت عنه.

أما الدكتور فريد (الفنان ظافر العابدين)، فهو الأمير الجميل "باريس" الذي أحبته "هيلين"، وتركت زوجها لأجله، ورحلت معه بكل حريتها إلى "طروادة". والدكتور فريد مثل "باريس" شخص متردد، وحائر، لا يمتلك شجاعة مواجهة الواقع، فيهرب دائماً للخيال، وعالمه الخاص، وهو أيضاً ضحية لمخططات ومفارقات القدر.

وزوجة فريد اللبنانية عايدة (الفنانة كارمن بصيبص)، التي امتلأت غلاً وحقداً عليه، بعد معرفتها بخيانته لها، وجعلت هدفها تدميره وجعله يخسر كل شيء، هي "ميديا" الزوجة الأجنبية المخدوعة، وبطلة التراجيديا الشهيرة التي حملت اسمها، وكتبها المسرحي اليوناني الشهير "يوربيديس"، والتي أحرقت الخيانة قلبها، وجعلتها تتفنن في تدمير حبيبها وزوجها الخائن "ياسون" بلا رحمة.

وأظن أن الحوار الذي استمعنا إليه، وأداء الممثلين الذي شهدناه في الحلقة الأخيرة، من خلال المشهد التي جمع بين فريد وزوجته عايدة، وهي تكشف له معرفتها بخيانته وكيف دبرت لتدميره، ثم المشهد الذي جمع بين كريمة وزوجها إسماعيل، وهو يكشف لها عن معرفته بمحاولتها لقتله وخيانتها له بحبها لفريد، ثم المشهد الأخير الذي جمع بين فريد وكريمة وإسماعيل، وهما يتبادلان الاتهامات وأسباب ما وصلا إليه، وهو المشهد الذي انتهى بانتحار إسماعيل، قد بلغ قمة الاتقان في كتابة وإخراج تلك الدراما المتميزة.

ثم جاء خطاب الدكتور فريد لكريمة، وهو في طريقه للخروج من بيت الزوج إسماعيل بعد انتحاره، ليجسد عمق وثراء النص الدرامي، الذي ارتفع عندي إلى مستوى الأعمال الأدبية المتميزة، ويكفي لإثبات ذلك قوله فيه ملخصاً دراما العلاقة بينهما: "ربما لو بحثنا عما جمع بيننا لن نجد سبباً واضحاً يمكن الجزم به، ولكن أسباب البعد كانت واضحة؛ ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا، كل ما حولنا كان يصرخ في وجهنا معلناً أننا أخطأنا. الرحيل أصبح حتمياً حتى وإن زالت العوائق، لأنها تركت بداخلنا جرحا غائراً لن يندمل".

إعلان