إعلان

 حياتنا الاجتماعية والسياسية كمسرح كبير

د. عمار علي حسن

حياتنا الاجتماعية والسياسية كمسرح كبير

د. عمار علي حسن
09:00 م الأربعاء 24 يناير 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

ليس المجتمع معادلة رياضية مُحكَمة، أو تركيبة كيميائية محددة العناصر، إنما هو حركة دائبة تتوزع بين الانتظام والعشوائية، والإحجام والإقدام، والقعود والنهوض، والسلبية والإيجابية، والعنف والسلام، والصخب والسكوت، والتعصب والتسامح، واليأس والأمل، والتذكر والتخيل. وتوجد بين هذه المتناقضات ألوان وأشكال وأنماط متدرجة من التصورات والتصرفات.

ويحتاج الناس للتعبير عن كل هذا، بحروف منطوقة أو مكتوبة أو بالإشارات والإيماءات والإيحاءات، ويجري الأمر بين ظاهر وباطن، وواضح ومضمر، وجلي وخفي، لتحضر اللغة والكلام، أو كل ما يحتاجه البشر في سبيل التواصل الذي هو ضرورة للأفراد والجماعات، كي تكتمل لوحة الحياة أو تتوافر شروطها، إذ دون هذا ليس هناك من شيء سوى جمادات أو أموات.

وهذه اللغة، وهذا الكلام ليس أرقاما حسابية، محددة جافة مصمتة، لا تقبل التأويل ولا الاجتهاد، إنما هي مفردات وتراكيب وعبارات، قد يتفاوت إدراكها وفهم معانيها ومراميها بين قائل وسامع، وفاعل ومفعول به، وتتعرض لكل آليات التشويه والتحوير والتدوير والتأويل، بعضها يذهب للمعنى من أقرب طريق، وبعضها علينا أن نبذل جهدا، أو نستعيد ما في رؤوسنا من خبرات وتصورات كي نقف على معناه. بعضها يكون جديدا على مسامعنا، وبعضها مجرد عبارة جارية وسائدة، تلوكها الألسن، وقد بات معناها محددا بصرامة من فرط استعمالها أو توظيفها.

لكن مثل هذه العبارات النمطية أو المنمذجة ليست هي الغالبة، إنما تلك التي تنفتح على تأويلات عدة، قد تتعدد على قدر السامعين أو القارئين، وقد تجعل الصمت أحيانا أبلغ من الكلام، أو أجدى، لأن النطق قد يفسد المعنى، في ظل عجز اللغة، مهما كانت درجة إتقانها وبلاغتها، عن التعبير عن كل ما نريد أن نقول. وربما يكون الشاعر الكبير صلاح عبدالصبور محقا حين قال في قصيدته: "مذكرات الصوفي بشر الحافي":

"احرص ألا تسمع

احرص ألا تنظر

احرص ألا تلمس

احرص ألا تتكلم

قف ..

وتعلق في حبل الصمت المبرم

ينبوع القول عميق

لكن الكف صغيرة

من بين الوسطى والسبابة والإبهام

يتسرب في الرمل كلام

ولأنك لا تدري معنى الألفاظ

فأنت تناجزني بالألفاظ

اللفظ حجر

اللفظ منية فإذا ركبت كلاما فوق كلام

من بينها استولدت كلام

لرأيت الدنيا مولودا بشعا

وتمنيت الموت

أرجوك

الصمت!"

إن دور الاستعارات ينشط في حديثنا، متعدية أن تكون مجرد ما تنبئنا به قواعد البلاغة من أنها مجرد تشبيه ناقص، تصريحي أو مكني، إلى ألوان من الأوهام والتهويمات والتصورات التي يصنعها الغياب الدائم للحقيقة، إذ لا نعرف على وجه اليقين ما يقف وراء القرارات السياسية، وخلف حركة المجتمع في فعله، ورد فعله ليبقى كل شيء ناقصًا أمامنا.

لهذا يكون بوسعنا أن نتفهم مقولة فريدريك نيتشه: "ليس ثمة حقيقة، فالعالم يعوم فوق سطح بحر من الاستعارات"، فالحقيقة قد لا تتعين بذاتها، إنما عبر إدراك كل منا لها من زاويته، فتصبح عدة حقائق في تصورنا، أو بمعنى أدق عدة أوهام عن الحقيقة. يجذبها كل معتقد فيها، أو ناطق بها، ناحية منافعه ومصالحه وميوله وأهوائه ويقول للآخرين بملء فيه: "الحقيقة هي ما أنا عليه".

وما يجعلنا ننحرف عن الحقيقة، في تكوينها وهيئتها المجردة، ليس غموض المعلومات حولها، ولا ما تفعله بنا الأيديولوجيات والميول، إنما أيضا أشكال الاستعارات والمجازات التي ننخرط فيها، والتي لا نقصد بها بالضرورة أن نوقع من يسمعنا في تلاعب أو مخاتلة، لكن ليس بوسعنا أن نعبر عما نفكر فيه، أو نعتقده، بدقة وشمول، أو بطريقة لا تقبل التأويل، أو تسحب إلى احتمالات عدة.

والحقيقة قد تكون مرتبطة بإطارين أو سياقين، الأول هو الواقع، والثاني هو التاريخ، وكلاهما مشبع بأشكال من التفاعلات والتعبير عن المصالح والأهواء، وحين ننهل منهما، فإننا لا نكون قادرين على التقاط الحقائق، بل ما يتاح لنا، أو نقدر نحن على الإمساك به. وقد نحاول أن نصنع مما حصلناه مسار برهنة، نوظفه في الدفاع عما نريد أن ننافح عنه.

فالواقع لا يصنعه طرف واحد، إنما أطراف عديدة، بينها تجاور وتفاعل، كما بينها توازٍ وتناقض وتنافس وصراع، وكل هذه تنتج خطابات تتناطح، أو يساعد بعضها بعضا، وقد تكون واضحة المعالم، أو محددة القوام، وقد تكون سائلة، تنداح هنا وهناك، وهي في الحالين مشبعة بالتشبيهات والاستعارات والصور الذهنية والتوهمات والتوسمات والأخيلة. لتبدو أشبه بمسرح يسعُ الدنيا بأسرها، أو حسب قول الفنان الكبير يوسف وهبي: "وما الدنيا إلا مسرح كبير".

فالمجتمع- ولا سيما السياسة- أشبه بالمسرح الكبير، وهنا يقول عماد عبداللطيف في كتابه "بلاغة الحرية: "حقل التواصل السياسي أشبه بخشبة المسرح التي تقف عليها القوى السياسية بأحزابها وجماعاتها وكياناتها، لتعزف خطاباتها أمام جماهير محتشدة، تجتمع في قاعة رحبة، رحابة الوطن. ومن الطبيعي أن تتغير المقطوعات المعزوفة، من حين لآخر، وأن يتغير العازفون، بل يمكن أن تتغير نوعية الجمهور أنفسهم، وشكل علاقتهم بالعازفين، لكن خشبة المسرح، وحدود الوطن تظلان ثابتتين عادة".

ويزداد هذا إن كنا نبحث عن الحقيقة في بطون التاريخ. فالتاريخ واقع تقادم عليه الزمن، ولذا يجري عليه ما يجري على الواقع المعيش من خصائص في علاقته بما نتصوره ونتوهمه، ونحسب أنه المسار الحقيقي، أو الصائب على الأقل.

ويضاف إلى هذا أن التاريخ الحاضر بين أيدينا ليس كل ما جرى إنما ما بقي، أو ما تم تدوينه وتسجيله، وهو في الغالب الأعم يعبر عن وجهة نظر من انتصروا، سواء كان انتصارا في حرب، أو في السيطرة على السلطة، أو التمكن الاجتماعي.

وهذا التاريخ لم يمت، خاصة لدى المجتمعات العربية التي تعيش في كهف الأيام الغابرة، وتعتبر رموزها وشخصياتها وما تم تسجيله من تصرفات وقعت فيها- أحد المحددات الرئيسية التي تتحكم في نظرة الكثيرين إلى مشكلات العصر، خاصة أن بعض من استعادوا التراث، أو كتبوه بلغة مفهومة لناس زماننا، تعاملوا مع ما وجدوه في بطون الكتب القديمة باعتباره حقائق. ولذا لم يفعلوا سوى تقديمه بطريقة جديدة، قابلة لقراءة أوسع في أيامنا، فأعطوا ما فيه من أساطير مفعمة بالمجاز، بعض ما جعل الأجيال المعاصرة تتعامل معه على اعتبار أنه هو ما جرى بالفعل، رافضين أي توجه يريد أن يخلصه من الاستعارات والإيهام.

وهناك قلة من المفكرين والباحثين تمكنت من الإحاطة بحجم الاستعارة والمجاز في هذا التراث، ولذا تعاملت معه من منظور نقدي. ولعل ما أورده طه حسين في مقدمة كتابه "الشيخان" يعبر عن إدراكه هذا المجاز، إذ يرى أن ما كتب عن أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب أقرب إلى "القصص منه إلى تسجيل حقائق الأحداث"، ثم يقول:

"القدماء يقصون الأحداث الكبرى التي كانت تجري في أيامهم، كأنهم قد شهدوها ورأوها رأي العين، رغم أننا نقطع بأن أحدا منهم لم يشهدها، وإنما أرّخوا لهذه الأحداث بأخرة.. وقدماء المؤرخين من العرب لم يعرفوا من أمر هذه الأحداث الكبرى إلا ما تناقله الرواة من العرب والموالي".

معنى هذا أن التاريخ الذي وصل إلينا حافل بالمجاز والاستعارة، مثلما هو واقعنا، وبذا تبدو حياتنا الاجتماعية أشبه بمسرح كبير.

إعلان