إعلان

عُقدة عبد الناصر

عُقدة عبد الناصر

د. أحمد عبدالعال عمر
09:05 م الأحد 24 سبتمبر 2017

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

بعضهم يتعامل مع الرئيس الراحل جمال عبد الناصر وكأنَّه زوج أمهم المستبد الظالم، الذي سيطر عليها واستأثر بخيراتها بعد أبيهم، ولذا فهو مكروهٌ بالمطلق مهما فعل من خير أو قدَّم. وهؤلاء لا يرغبون في النظر إليه كزعيم سياسي جاء في سياق تاريخي كان يتم فيه إعادة تشكيل المنطقة والعالم، وقد اجتهد في إدارة البلاد وحكمها، وأصاب وأخطأ.

وبالتالي يُصبح له ما له، وعليه ما عليه، وتصبح تجربته بحاجة مستمرة لإعادة قراءة وتحليل ونقد، لنعرف فيما أخطأ وفيما أصاب، وما هي النقطة غير القابلة للنقد والهدم في تجربته، والتي يجب تكريس حضورها والبناء عليها، وما هي النقطة التي يجب رفضها واستبعادها كي لا نُعيد إنتاج أخطاء الماضي مرة أخرى.

والمفارقة العجيبة أن هؤلاء الكارهين لعبد الناصر الناقدين بإطلاق لشخصه وتجربته، قد استفادوا كثيرًا من ثورة يوليو وسنوات حكم عبد الناصر ومكتسباتها، وبعضهم قد تغنى بشخصه وبطولته في حياته.

وبعضهم كان من رجال الدولة في عهده وفي العهود اللاحقة له. وبالتالي فهم لا ينتمون إلى خصومه التاريخيين من جماعة الإخوان المسلمين، ولا أبناء الطبقة الحاكمة قبل ثورة يوليو أو من تضرروا من قوانين الإصلاح الزراعي أو التأميم.

ولهذا فنحن في محاولتنا لفهم دوافع تلك الكراهية ومعرفة جذورها وأسبابها، ربما لا نحتاج لتحليل سياسي أو اقتصادي، ولكن لتحليل نفسي واجتماعي، لمعرفة جذورها وأسبابها، وكيف ولماذا صار عبد الناصر يمثل لهم عقدة، يمكن أن تُدرج في كتب علم النفس السياسي، تحت اسم “عقدة عبد الناصر”.
ويمكن القول إن أهم دوافع كراهيتهم لعبد الناصر، ومحاولتهم المستمرة لتشويه صورته ورمزية حضوره، أنه السياسي والحاكم المصري الوحيد في تاريخ مصر الحديث، الذي لم يخُن طبقته، وأحلام الناس فيه بعد وصوله للحكم، والذي لم تأخذ بعقله وقلبه أبهة السلطة وبريقها ووجاهتها، فعمد إلى فصل نفسه عن هموم الناس وأحلامهم، وواقع حياتهم، ليعيش عيشة الملوك في القصور، كما فعل غيره من الرؤساء ورجال الدولة من أبناء البرجوازية العليا والرثة، الذين جعلوا من الحكم والعمل السياسي مطية للارتقاء الطبقي، وصنع الثروة، والدخول في رحاب الطبقة المخملية.

ومن دوافع كراهيتهم لعبد الناصر أيضًا، أنه كان سياسيًا وحاكمًا غير قابل للشراء أو الإغواء أو الفساد، ويؤكد ذلك ما جاء في كتاب “التقدم نحو القوة” الذي كتبه رجل المخابرات الأمريكية “يوجين جوستين”، وقال فيه: “إن مشكلتنا مع ناصـر أنه رجل بلا رذيلة، مما يجعله من الناحية العملية غير قابل للـتجريح، فلا نساء ولا خمر ولا مخدرات، ولا يـمـكـن شـراؤه أو رشوته أو حتى تهويشه؛ ولذلك فنحن نكرهه ككل ولكننا لا نستطيع أن نفعل شيئًا تجاهه لأنه بلا رذيلة وغير قابل للفساد، ولذلك فهو خصمٌ محترمٌ بشكل غير عادي”.

وقد أكد تلك الحقيقة “الراحل أحمد بهاء الدين” في كتابه “محاوراتي مع السادات” عندما روى ما ذكره له “الدكتور علي الجريتلي“ الذي يُعد واحدًا من أنبغ خبراء مصر الاقتصاديين، وأكثرهم نزاهة وحضورًا دوليًا، وذلك في سياق حديثه مع “أحمد بهاء الدين” عن نزاهة الرئيس عبد الناصر، وقوله له: “لقد كان عبد الناصر أكثر كبرياء من أن يقبل بأي فساد.. وبعد موت عبد الناصر بسنة تقريبًا، كنت في مقابلة مع رئيس البنوك السويسرية، وإذا به يقول لي: إن المخابرات الأمريكية والمخابرات الإسرائيلية قد “هلكتنا” شهورًا طويلة. وسألته: لماذا؟ فقال لي الرجل السويسري: لقد حاولوا بأي طريقة العثور على أي حساب باسم جمال عبد الناصر فلم يجدوا”.

تلك هي أبرز دوافع عقدة عبد الناصر عند الكارهين له ولما يمثله، ومن يهاجمونه باستمرار. ويمكن إجمالها في كونه حاكما لم يخن طبقته وأحلام البسطاء فيه، وحاكما طمح لأن يكون لجموع المصريين النصيب الأكبر في ثروات بلادهم، ولكونه حاكما ورجل دولة غير قابل للغواية والفساد.

ومع ذلك يبقى هناك دافع خفي لكراهية عبد الناصر، وللعقدة التي صار يمثلها حضوره عند الكثير من خصومه بمختلف توجهاتهم، ويمكن رصد هذا الدافع من خلال متابعة حملة الهجوم على عبد الناصر التي شهدها المشهد السياسي والإعلامي المصري مؤخرًا، والتي يقف وراءها الرغبة في نقد دور الجيش في الحكم، الذي بدأ مع ثورة يوليو.

وهذا الهجوم هو نقد غير مباشر لنظام الحكم الحالي، وحضور ودور المؤسسة العسكرية فيه. وهو محاولة لتقويض شرعية ثورة يوليو التي استظلت بها أنظمة الحكم المتعاقبة في مصر منذ الرئيس عبد الناصر حتى الرئيس السيسي.

إعلان