إعلان

السيد ياسين .. يرسل اعتذارًا إلى أبيه

السيد ياسين .. يرسل اعتذارًا إلى أبيه

خيري حسن
09:00 م السبت 04 نوفمبر 2017

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

كانت الساعة تقترب من الواحدة ظهرًا.. وأنا أصعد من محطة مترو جمال عبدالناصر، في طريقي إلى صحيفة الأهرام. الضجيج يملأ الشوارع حولي، والباعة الجائلون ترتفع أصواتهم المجهدة للإعلان عما لديهم من بضائع مختلفة. ارتباك حركة المرور اليومي كالمعتاد، يؤكد بهدوء، ودون مبالغة، أننا في قلب القاهرة.

على بُعد خطوات وجدت زميلي المصور يقف في حالة ضجر بسبب ارتفاع درجة الحرارة، ومن الزحام المزعج، ومني أنا نفسي، وربما من "السيد ياسين" شخصيًا، ذلك الكاتب والمفكر الكبير(1935ـ 2017) الذي نحن في طريقنا إليه، لإجراء حوار صحفي معه.

كنت قبلها بأيام، اتفقت معه عبر الهاتف على إجراء هذا الحوار. وحدد لي موعداً في مكتبه بالأهرام. وطلب منى نسخة من صحيفة الوفد، كنت قد نشرت له فيها حوارًا من قبل. وقال لى إنه، للأسف، لم يستطع وقتها الحصول على النسخة. فقلت له: حاضر، لديّ نسخة سآتي لك بها عند اللقاء، واتفقنا على ذلك.

وفى الموعد المحدد بيننا وصلت، وصعدت إلى مكتبه بالدور الـ11 بالأهرام (المبنى 2) ومعي زميلي المصور. بعد السلام والترحيب بنا سألني قبل أن أجلس "جبت يا أستاذ نسخة الصحيفة معك"، قلت: للأسف نسيت. رد بعصبية واضحة في صوته: وأنا للأسف لن أجري معك الحوار، إلا بعد أن تأتي لي بالنسخة كما اتفقنا. قلت له: لكنني أسكن في حي المعادي البعيد عن هنا! قال: "هذه قضيتك أنت.. اتصرف".. وقد كان.

تركت زميلي المصور في مكتبه، وعدت بالمترو إلى منزلي، وجئت له بالنسخة كما أراد، وأثناء الطريق ذهاباً وإياباً ، بدأت أسأل نفسي، لماذا يصرّ على هذا الأمر؟ وجعلني أعود من حيث أتيت، من أجل أن آتي له بنسخة من صحيفة نشر له فيها حوار منذ فترة، وهو الذي تُنشر له دوريات مصرية وعربية، وربما إقليمية، بشكل يومي وأسبوعي؟ هل أراد بذلك أن يعطينا ـ كصحفيي هذا الزمن ـ درساً في احترام ما نتفق عليه مع مصادرنا؟ ممكن! أم أنه كان في شوق ورغبة شديدة ليرى ما كُتب عن أبيه الجنرال العسكري الذي رحل منذ سنوات بعيدة. وكأنه أراد أن يقول لأبيه شيئا لم يقله من قبل في حياته. وعندما قاله لم يجد أباه بجواره، ولا الصحيفة التي قال له فيها ما أراد. وبالتالي ذهب قوله أدراج الرياح، خاصة أن الحوار المنشور كان عن ذكرياته مع أبيه في الصغر. كان هذا أيضًا احتمال وارد، دار في ذهني، بل إنني تيقنت أنه هو الاحتمال الأقوى والأرجح.

بعدما توقف بي المترو في المحطة، تحركت بسرعة إلى منزلي، وفتشت عن الصحيفة حتى عثرت عليها وسط ركام الصحف القديمة، والكتب غير المنظمة أو المرتبة، وعدت بها سريعًا إليه. دخلت عليه مكتبه فوجدت زميلي يجلس في مكان قصي، في حالة غضب، وينظر لي في ضجر، وعلى لسانه كلمات عرفتها دون أن ينطق بها. أما هو فيجلس على مكتبه الضخم، وأمامه فنجان قهوته، وفى يده غليونه الذي ينفث منه دخانه المتطاير في فضاء الحجرة حوله بكثافة. أما أنا فكنت أتصبب عرقًا من عناء الطريق ذهاباً وعودة.

بعد لحظات قليلة، رفع رأسه من فوق صفحات كتاب أمامه، ونظر لي مبتسماً وهو يقول: لقد أردت بهذا الموقف أن أجعلك تتعلم احترام كلمتك، ومواعيدك، وأن تعرف أن احترام الكلمة هو من احترام الشخص لذاته. ثم ضحك وهو يشعل غليونه الذي كان قد أنطفأ منذ قليل، وأكمل كلامه قائلاً: لكن هذا الحوار بالتحديد الذي كنت قد أجريته معك من قبل عن أبى، كان من المهم أن أرى ماذا قلت أنا، وماذا كتبت أنت عنه فيه، لذلك كان من الضروري، الحصول على نسخة من الصحيفة، حتى لو كلفني هذا المزيد من الانتظار وكلفك أنت المشوار رايح جاي.

في هذه اللحظة شعرت أنه فعل ذلك ـ فيما أعتقد ـ لأن الموضوع كان عن ذكرياته مع أبيه والحنين والشوق إلى ذكره وعصره وزمنه، وقتها طلب لي فنجانا من الشاي وسمح لي بالجلوس، حتى أهدأ وأجفف عرقي من إرهاق الطريق. أما هو فأمسك بالصحيفة وأزاح من أمامه أوراقا وكتبا كثيرة، وبدأ يقرأ الحوار بجدية شديدة. هو يقرأ وأنا عيني على ملامحه التي أظهرت لي سعادته البالغة، وهو يتذكرـ من خلال الكلمات ـ أيام صباه، تلك الأيام التي كان يسمع فيها صوت أبيه وهو يناديه عندما كان طفلا صغيراً.

بعد دقائق فرغ من القراءة ثم قال بصوت حزين: عندما كان أبي على فراش المرض وفي لحظات الوداع الأخيرة، كنت بجواره أنا وأخي الأكبر، يومها نظر لي وقال: ألا يوجد علاج يطيل العمر قليلاً يا ولدي؟ قالها وهو يتشبث بالحياة، ويتمنى أن يمتد به العمر ولو بضع ساعات. وأنا أقف بجواره عاجزاً عن فعل أي شيء، وبعدها بدقائق مات. ثم سكت وهو يخلع نظارته الطبية السميكة وقال: إن الحياة تستحق أن نحافظ عليها واحترامك للكلمة التي تقولها يطيل من حياتك فيها بحسن السيرة، والذكرى الطيبة، وأظن الدرس العملي الذي أخذته اليوم يكفيك.. أليس كذلك؟

قلت وأنا أبتسم: نعم. ثم غاب بذهنه قليلاً ووضع يده على رأسه، وقال: هل أبوك على قيد الحياة؟ أجبت: نعم. قال وهو يتنهّد تنهيدة طويلة: إذن لا تدع لحظة تفوتك وأنت بعيداً عنه، ولا تجعل مشاغل الحياة، وحياتك العملية، وصراعك الحياتي اليومي، يبعدك عن أبيك أو عن أمك، فهما سر من أسرار جمال الحياة.

هززت رأسي وأنا اقترب من الانتهاء من فنجان الشاي الذي في يدي ثم ودعته، بعدما فرغت من مهمتي معه، وخرجت مسرعاً من مبنى الأهرام أسير في الشارع عائدًا للضجيج مرة أخرى، وأرى حولي وجوهًا بائسة، ويائسة ومرتبكة، وحزينة، تتصارع مع الحياة من أجل الحياة. وبداخلي إحساس طاغٍ يقول لي إن "السيد ياسين" في حواره معي الذي نشر من قبل، كان يريد أن يرسل من خلاله (الحوار) رسالة لأبيه ـ الذي مات منذ سنوات بعيدة ـ يعتذر له فيها عن عدم وصول العلم إلى دواء يطيل العمر، -مثلما كان يتمنى الرجل وهو يصارع الموت-. ويعتذر له ـ أيضًا ـ عن كل دقيقة مرّت وهو بعيد عنه، بحكم دورة الحياة وضغوط اهتماماتنا وأعمالنا اليومية. وكلما اقتربت أكثر من وجوه الناس، التي تسير بجواري وأمامي فى الشارع، أشعر أنهم جميعًا ـ في يوم ما ـ سيرسلون نفس رسالة الاعتذار.

إعلان