إعلان

الطريق إلى دمشق (٤): قصة حب بين إمبابة وجبل قاسيون

الطريق إلى دمشق (٤): قصة حب بين إمبابة وجبل قاسيون

ياسر الزيات
09:17 م الأربعاء 21 يونيو 2017

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

يقودك سوق الحميدية في نهايته إلى الساحة الخارجية للمسجد الأموي. في الطريق يأتيك صوت الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، فتعتقد لوهلة أنك في ساحة مسجد الحسين، وتختلط رائحة القاهرة برائحة دمشق. بين المدينتين هناك دائما إحساس يربكك، ويجعلك تنسى في أي مدينة تمشي. التشابه بين شوارع القاهرة ودمشق، لا تخطئه عين أو قلب. وعندما تمشي في شارع ٢٩ أيار، مثلا، في قلب العاصمة السورية، قد تعتقد أنك تمشي في باب اللوق في قلب العاصمة المصرية، المقاهي نفسها، والطبيعة المعمارية نفسها، والبشر الذين يحملون ابتسامة مهمومة أنفسهم، ويسرعون في اتجاه اللاشيء. في ذلك الوقت من عام ٢٠٠، تمنحك شوارع دمشق شعورا بأنك تمشي في شوارع القاهرة في الستينات، وهذا كل ما في الأمر، سياسيا واجتماعيا واقتصاديا.

في البداية، اعتقدت أن صوت الشيخ عبد الباسط عبد الصمد الذي تبثه ميكروفونات المسجد الأموي يأتي من محطة إذاعية، لكن تبين لي أن الأمر مختلف. في الساحة الداخلية للمسجد، انتشر قراء القرآن في زوايا مختلفة، كما انتشروا داخل المصلى نفسه، وكانوا جميعهم تقريبا يتلون القرآن بطريقة تجعلك تتخيل أن روح عبد الباسط تناسخت، واحتلت أرواحهم جميعا، فتوزع صوته في أصواتهم. نظرت إلى شلبية إبراهيم، ففسرت لي الأمر: "زار عبد الباسط المسجد الأموي، فانبهر به السوريون، وصار المقرئون من يومها يتلون القرآن على طريقته". يرتبط صوت عبد الباسط بطفولتي، يرتبط برائحة أبي، وصوت أمي الدافئ، وبألوان جدران بيتنا، ويخلق حميمية شديدة بيني وأي مكان أزوره. وزاد وجود شلبية برفقتي هذا الإحساس بالحميمية.

لا أستطيع أن أتخيل دمشق بدون شلبية إبراهيم ونذير نبعة، وتمثل لي شرفة بيتهما المطلة على جبل قاسيون حالة ثقافية وفنية وروحية خاصة، تلخص قصة حب الزوجين الفنانين التشكيليين الكبيرين. عرفت شلبية إبراهيم عن طريق صديقي الفنان التشكيلي الراحل عدلي رزق الله، الذي نظم لها معرضا في جاليري ٥+٥ الذي كان يديره مع صديقه المهندس عباس محمود عباس في ميدان طلعت حرب. 

كانت شلبية مجرد فلاحة بسيطة غير متعلمة تعيش في إحدى قرى المنوفية، عندما شاهدها طالب سوري يدرس الفنون في كلية الفنون الجميلة في القاهرة، اسمه نذير نبعة. أحب نذير، الذي صار لاحقا أحد رواد الفن التشكيلي السوري، شلبية، وتزوجها، وعاش معها في شقة صغيرة في مدينة العمال في إمبابة، إلى أن أنهى دراسته، وانتقلا معا للحياة في دمشق، حيث أنجبا فنانين هما صفاء وعمار.

تحولت شقة نذير وشلبية الصغيرة في القاهرة إلى ملتقى لأصدقائهما من الأدباء والفنانين، تماما كما هي الحال مع بيتهما الذي زرته في مايو ٢٠٠٣، في بناية عدنان المالكي في دمشق. ذات يوم، عاد الطالب نذير من الكلية إلى البيت، فوجد زوجته الصغيرة تفترش الأرض، وحولها الكثير من الألوان، وكانت مستغرقة في الرسم. كانت علاقة شلبية بالرسم لا تتعدى مراقبة زوجها الشاب وهو يعمل، لكن هذا الزوج هو الذي يقف خلفها مبهورا بموهبتها المفاجئة، وقدرتها المذهلة على خلق لوحات ساحرة، تخصها وحدها، ولا تحمل بصمة أحد سواها. تلك الفلاحة الصغيرة تحولت إلى ساحرة أشكال وألوان، رغم أنها لم تدرس الفن مثل حبيبها. فكر نذير لو أن هذه الموهبة صقلتها الدراسة، فأخذ لوحات رسمتها شلبية إلى أستاذه الدكتور عبد العزيز درويش الذي كان عميدا لكلية الفنون الجميلة وقتها، وطلب منه أن يلحقها بقسم الدراسات الحرة في الكلية، لكن رد الدكتور درويش فاجأه: "يا نذير يا ابني، عمنا ماتيس كان بيحلم إنه يرسم بهذه التلقائية. لا تفسد موهبتها بالدراسة".

في وقت لاحق، تعلمت شلبية القراءة والكتابة، عندما بلغت الأربعين، وتحولت إلى فنانة مشهورة، عرضت لوحاتها في معارض عالمية، وكان لها أسلوبها المميز وبصمتها الفريدة، تماما كزوجها الذي رحل قبل عامين. وفي شرفتهما المطلة على جبل قاسيون، رأيت شلبية تطعم الحمام بيديها، ورأيت الحمام يطير، يطير الحمام، ربما ليشكرها، وربما ليحط في لوحاتها آمنا، وليغذي تلك الروح الحرة المتفردة، أو ليوثق حالة حب فريدة بين فنانين عاشقين.

مدهش وغريب، أن أحدا لم يفكر في كتابة رواية تستلهم قصة حب شلبية ونذير، أو كتاب يروي قصة الحب بين الفنانين العظيمين.

وللرحلة بقية

إعلان