إعلان

الست راضية.. قصة سيدة تُعطر عربات المترو بـ "سيرة النبي"

07:19 م الأحد 15 يناير 2017

سيدة تُعطر عربات المترو بسيرة النبي

تطبيق مصراوي

لرؤيــــه أصدق للأحــــداث

كتب - محمد مهدي وإشراق أحمد:

رسوم - رنا أسامة:

زحام، جو خانق، وجوه بائسة، النظرات شاخصة تجاه خط السير المُلصق أعلى البوابة، بعضهم يدفن وجهه في جريدة، وآخرون يكسرون الملل بهواتفهم الذكية، وقبل أن يصل القطار إلى إحدى محطات خط حلوان، تندفع سيدة خمسينية إلى العربة، تحمل بيديها حقيبتين كبيرتين ممتلئتين بأنواع مختلفة من "المناديل"، تتجول عيناها في المكان سريعًا فتدرك معاناة الناس، تبتسم، ثم تبدأ في مديح النبي محمد بصوت خافت، يعلو شيء فشيء، مع انتباه الجميع، وآهات المستمعين بكلماتها، ونظرات السعادة من الفتيات، وصيحات مَن يغادر العربة حزينًا لعدم انتظار نهاية المديح "الناس بتمسك فيا مش عايزاني أنزل، بيقولولي سمعينا يا أمي. بنحس بمديحك إن الدنيا لسه حلوة" تقولها الست راضية بائعة المناديل التي اشتهرت بمدح الرسول في عربات المترو.

لم تكن السيدة ذاتها قبل 5 سنوات، تجوب محطات المترو بحقائب المناديل، ولم يسمعها أحد قط تمدح الرسول سوى أسرتها، لكن الحال تبدل؛ من ربة منزل مترفة في بيت كبير بإحدى الدول العربية، إلى ظروف قاسية أعادتها إلى القاهرة برفقة أبنائها بحثًا عن مصدر رزق يكفيهم شر الحاجة "اشتغلت حاجات كتير. بس كنت بقابل مشاكل، فقررت أبيع مناديل.. الشغل مش عيب".

بخطوات مرتبكة، وملامح قلقة، تخطت "راضية" حواجز محطة مترو رئيسية، في صيف 2011، تُمسك بحقيبة صغيرة من المناديل، حصلت عليها بكل ما تملكه من أموال، جلست للحظات قبل أن تدلف إلى أول قطار يصل المحطة، تسمرت أمام الركاب، توقف الزمن، استعادت ما كان، تقلبات القَدر، وما آل إليه الحال، حاولت أن تَنفض الأمر عن كاهلها، تقدمت متسائلة بحرج "حد عايز مناديل"، لم يستجب أحد، لم ينتبهوا إليها.

خرجت من العربة، كررت فعلتها في عربات أخرى، دون أي نتيجة "كانوا بيخيل عليهم الكداب والغشاش وبس"، هنا قررت السيدة الستينية أن تدفع بمهارتها المُحببة لدهشة وإسعاد الركاب "صلوا على النبي يا عالم الله تلاقوا الحب غانيه.. الحب يا ناس يهز القلوب ما يخلي القساوة تيجي فيه. قاله توكل على الله مكسب الجمال يرضيه".

مع وصول القطار، تتقدم "راضية" مع الراكبين، فيما تتحسس خطواتها، بكل مرة تستقل عربة بالقطارات المتلاحقة "لو دخلت عربية ومرتحتش ما امدحش". الراحة النفسية هي الحكم لدى السيدة الخمسينية، لما تجود به على زبائنها، فقد باتت جزءًا لا ينفصل عن رحلتهم، إذ تحرص أن تجتاز خط مترو محدد، في وقت لا تخالفه، يبدأ من الصباح وحتى الثانية ظهرًا، متحرية الابتعاد عن طريق، ربما تأتي له قدم أبنائها.

لا تتنكر ذات اللهجة الصعيدية من العمل، بل تترفع عما قد يؤذي مشاعر صغارها، كما تفعل مع العابرين؛ فإن وقعت عينيها على مسيحي بالعربة، ألقت فيما تَتغنى مدح لا يفرقه الديانة "واخش الدير وأقول بيكي وأدي السلام وأرضيكي.. أحنا اخوات سلام ليكي يا دو يا دو يا بويا".

سيدة تُعطر عربات المترو بسيرة النبي

لا تبتغي صاحبة الصوت الرخيم ذو البحة المميزة استجداءً، بل تُرسي قواعدها "لما أدخل مكان لازم أطلع بالحب". المادة ليست أساسها، بمنطق الطير تتعامل، تغدوا خِماصًا، وتؤمن أنها ستروح بطانًا، لذا تنطلق روحها بسعة صدر وسجية، غير معتمدة فقط على ما تحفظ، إذ أثقل مداومة الإلقاء موهبتها، فما تقوله بعربة لا تكرره في أخرى.

داخل المترو يكون لراضية في نفوس الناس زاد؛ ما أن يلفظ أحدهم كلمة، تبني عليها خيط لأشطر متوالية بسجع النهايات، أو يقودها وقع عينيها على فتاة أو رجل مهموم لكلمات، فتندر مسعاها لجبر الخاطر "يا روضة الجمال والله لأبص بيه، جت لي صبية طريق السلام، تقول لي يا أُماي ادعيلي بالسلام منيه، عايزه اسمع مديح النبي على طريق السلام بيه".

على دِكة خشبية، بإحدى المحطات، تجلس "راضية" لنيل قسط من الراحة، تَسرح مع حركة القطارات، تتذكر بدايتها مع المديح، طفلة في العاشرة لا تفارق أمها الصعيدية، تتحرك معها في كل مكان، تتلقى عنها مديح النبي "عجنا العجينة في طريق النبي، عجنا العجينة.. ياما شق نورك يا نبي طافينا الفاتيلا. نورك ونوره من نور الرب عندنيا" تُردد الأم بسعادة بالغة، تشدو بخفة، نور يملأ وجهها من فَرط الاستمتاع "تمدح وهي بتطبخ وبتغسل، هي من سوهاج ورثت عن أمها وجدتها المديح. وأنا خدت منها المدح، وزودت عليه بالارتجال".

لم تعد علاقة ذات الجلباب الأسود بالمترو مرتبطة بالعمل، وعملية بيع وشراء، بل وُهبت معارف طيبة، بدأت بتمسك البعض بها للبقاء بالعربة والاستمرار في المدح "في اللي يقوم يبوس راسي وإيدي ويقول لي يا أمي سمعينا تاني أحنا بنحس لسه في دنيا حلوة زي الأول"، ولا يتوقف الأمر عند طلب البعض التواصل معها، للاطمئنان عليها، بل البعض يدعوها لمناسبات شخصية، لإلقاء بعض كلمات المدح.

أفراح وأعياد ميلاد لمسلمين ومسيحيين، لا تتردد "سيدة القطار" عن أداء واجب الدعوة، فيما تغوص نفسها في حزن عميق، إن هم الداعِ بإعطائها مقابل مادي "كرامتي أحلى من الفلوس.. أنا معزومة مش لا رايحة شغل" تقول سيدة المديح في المترو.

رغم المحبة التي تستشعرها "راضية" من حفاوة تعامل الكثير حسبما تروي، غير أن نظرات البعض وتعاملهم معها باعتبارها متسولة يُدمي قلب السيدة "كتير يقولوا لي أنت بتمدحي النبي عشان تشحتي"، ويكون هذا أثقل عليها من إيقاف رجال أمن المترو ممن لا يعرفونها وتغريمها، إذ ترى الحق في صفهم "أحنا غلط.. المترو ده مكان سياحي وأحنا بنطلع متعرفش مين الحلو ومين الوحش.. مين المحترم أو الكداب عشان كده بياخدونا".

ومع طباع الناس كان للسيدة باع، ترى أنه ما ينبغي لها أن تقوم على التجريح أو المعايرة. إلا أنه في الوقت ذاته حين تبلغ ذروتها، تكسر عزوف الرد على سيء التعامل، لكن بما تجيده، فتنظم كلمات كفيلة ببهت جارحها "يا طايح زمانك ما اعمل بيك.. أنت زي غنم البهايم والزريبة تلم اللي زييك لاجيب والله السلبة واربط الرقبة واشدك ورايا فيك".

سنوات لا تفارق قدما ابنه الصعيد "المترو"، فحق لها وصف "سيدة القطار"، وما بين مرور الأيام مستنزفة لطاقتها "المديح أحيانًا بيخليني مش طايقة الناس وساعات تانية بيبقى مش مخليني عايزة امشي"، يظل نظم الكلمات هو الدواء لها بكل وقت وحين، لا تشفى من حبه، ينطلق لسانها رغمًا عنها، فتوقن أنه مصدر سعادتها، حين تغزو القسوة القلوب، فتنتشي بينما تشدو أحب ما تحفظ "يا مصلي على النبي يلا بيهم تشوف الأمان والرضا فيهم.. كفاية الضحكة تغنيي وتشيل البلا من ديني.. يا قلوب الصفا عديني.. صلوا عليه صلوا عليه".

فيديو قد يعجبك: