إعلان

"أنديل": حرية الكاريكاتير في مصر مرهونة بتغير أنظمة الحكم

10:36 ص الإثنين 26 سبتمبر 2016

0

تطبيق مصراوي

لرؤيــــه أصدق للأحــــداث

حوار- علياء رفعت:

في غرفته الصغيرة التى تتناسب طرديًا مع حجمه كطفل لم يتجاوزعامه السادس بعد؛ جلس دامع العينين. رفض والده أن يصطحبه معه إلى القاهرة التى يحبها، تعلل بكثرة الأشغال التي عليه أن ينُهيها هذه المرة ولذلك لن يستطيع أن يرافق صغيره لدورالسينما والمسرح كعادتهما. ورغم أن مبررات الأب تبدو منطقية إلا أن ذلك لم يكن سببًا مُقنعًا للصبي الذي سيحرمه عدم الذهاب مع أبيه من التمتع ببريق القاهرة الساحرة بالنسبة له آنذاك. جذب الورقة، القلم، والألوان وشرع في ممُارسة الرسم الذي يعشقه ليُروّح عن نفسه فانتهى به الحال راسمًا والده وهو يتشاجر مع سائق الميكروباص الذي ينقله من كفر الشيخ للقاهرة، ليقوم الأب بالنزول من الميكروباص بعد مشادة كلامية من العيار الثقيل مع السائق ويعود لمنزله.

"كنت شايف في أبويا وقتها السلطة اللي حرمتني من حاجة بحبها وعبرت عن رفضي للوضع ده بالرسم" مُسترجعًا ذكريات طفولته، قالها أنديل وهو يؤكد بأنه لم يكن يعلم أن ما قام به وقتها هو (كاريكاتير)، ولكن فور عودة والده للمنزل عرض عليه الصورة ليبتهج كثيرًا، ويوضح للصغير أن رسام الكاريكاتير هو الشخص الذي يملك وجهة نظر -غير مثالية وصادمة- حول موضوع ما، يعبر عنها بالرسم الذي يصل إلى الانتقاد اللاذع في مواضع عديدة. لهذا تحديدًا يعتز أنديل بهذة الرسمة فهى البوابة التى انطلق منها لعالم الكاريكاتير "كان أول كاريكاتير سياسي ساخر في حياتي".

1

كانت الأجواء التى تربي فيها "أنديل" مُنذ الصِغر أجواءً ثقافية وفنية بالدرجة الأولى فوالده كاتب قصصي ومُترجم ووالدته شاعرة، نما الحِس الفني لدى الطفل الصغير، كان يرسم طوال الوقت ليطوّر موهبته حتى عَرّفه والده على مُلحق "قصاقيص" بمجلة علاء الدين والذي كان يحوي كاريكاتير صلاح جاهين ففُتِن به وعَمد إلى تقليده ليبتكر بعدها أسلوبًا خاصًا به في الرسم. ولكي يشجعه والداه فقد طبعا إحدى رسوماته على غلاف ديوان لوالدته، ليتكرر الأمر ثانية وهو في سن الخامسة عشر فيقوم برسم الرسومات المصاحبة لبعض الأشعار التى نَظمتها والدته بمجلة (بليل). "لما شوفت رسوماتي في المجلة والديوان بيتوزعوا على الناس أدركت أهمية الرسم في حياتي وفي توصيل أي رسالة في الكون، قررت إن هو ده اللي أنا عاوز أعمله بقية عمري".

بعد إنهاء أنديل للثانوية -التى لم تخلو بدورها من رسوماته المُهاجمة لإدارة مدرسته والتي كانت تُكسبه شعبية طاغية وسط أقرانه- التحق بكلية التربية الفنية، ولكنه لم يكن يواظب على الحضور فيها "علاقتي بالتعليم مكنتش مفيدة على الإطلاق، كنت عارف أنا عاوز أعمل إيه بالظبط وبدأت أعمله بالفعل"، وقتها انطلق أنديل للعمل بإحدى الصُحف المغمورة كرسام كاريكاتير تحت التدريب، وبعد عام من العمل الجاد واتته الفرصة ليلتحق بسفينة "الدستور" التي كانت تُبحر عكس التيار في ذلك الوقت. اختباراتٌ كثيرة اجتازها الشاب على يد عمرو سليم عقب العديد من النقاشات التى طورت من أدائه حسبما يقول "كان بيسألني أسئلة جديدة جدًا عليَّ أول مرة حد يسألهاني ويقولي رسمت ده كده ليه وليه دي بالشكل ده.. خلاني أفكر في اللي بحب أعمله بشكل مختلف". ومنذ عام 2005 كانت الدستور قد اعتمدت أنديل ضمن رساميها، وفردت له المساحة لينتقد ويرسم ما يشاء دون قيدٍ أو شرط.

9

في جريدة "الدستور"، وتحديدًا في أواخر عهد مُبارك، كان الكاريكاتير ينعم بحرية غير مسبوقة، بحسب الرسام. "كنا بننتقد النظام بالطريقة اللي إحنا عاوزينها من غير ما حد يمنعنا، شغلنا في الوقت ده كان حلو، كله حيوية، وصادق"، ويرجع ذلك كما يرى أنديل إلى أن "نظام مبارك كان مُهترئًا في سنواته الخمس الأخير وآيل للسقوط وبالتالي تلاشت تلك القبضة التى يمكن أن تقمع حرية الرأى والتعبير".

مع بداية عام 2010 كانت الشكوك قد بدأت تتسرب إلى نفس أنديل حول جدوى دور رسام الكاريكاتير وما يفعله، فصحيح أنهم ينتقدون النظام بحرية ولكنه لا يتغير في شيىء ولا يسقط. العائد المادي الضئيل جدًا الذي كان يتقاضاه لعب دورًا فعالًا في زيادة تلك الشكوك أيضًا، فهو لا يكفي لسد احتياجات ومتطلبات شاب يريد أن يؤمّن لنفسه العيشة الكريمة، لهذا قرر أنديل ترك الدستور والتوقف عن الرسم، واتجه لكتابة الاسكريبتات والعمل التليفزيوني، إلا أن رسام الكاريكاتير بداخله تمرد عليه في نهاية العام ذاته ليلتحق مع أصدقائه مخلوف، دعاء العدل وأنور بإحدى الصحف الخاصة.

عامٌ واحد فقط مر على التحاق أنديل وأصدقائه بالصحيفة لتقوم بعدها الثورة فيجدوا أنفسهم في خِضم أجواءٍ مختلفة تمامًا عن الاكتئاب الذي تملكلهم قبلها "قبل الثورة كنا مكتئبين إلى حد كبير ودايمًا بنسأل نفسنا احنا بنشتغل ليه اصلا ولا بنعمل ايه، لدرجة إني لما ارجع وأبص ع الرسم اللي كنا بنعمله قبلها مكنتش بتبسط بيه أوى".

2

ورغم أن الكاريكاتير يعد رؤية شخصية تعبر عن وجهة نظر صاحبها تمامًا كالمقال الصحفي إلا أن أنديل يُجزم بأن حرية الكاريكاتير في مصر مرهونة بتغيُر أنظمة الحُكم والسياسات التحريرية للصحف إما بالموالاة أو بالمعارضة وهذا هو ما يحكم نوعية الرسومات المنشورة على حد تعبيره " لما الثورة قامت وفي الـ18 يوم كنا بنرسم طول الوقت لكن مكنتش بيتنشر الشغل وبيأخروه لحد ما الحدث يعدي لأنهم مكنوش عارفين الدنيا رايحة فين".

الحال ذاته تكرر بطرق مختلفة لدى تعاقب الأنظمة على سُدة الحكم بمصر عقب الثورة، فحتى الصُحف الخاصة كان "الكاريكاتير ورساميه فيها مُقيدون بسياستها التى تُهادن أو تطرق على الحديد الساخن بالانتقاد"، حسبما يقول أنديل. "فضلت شغال في الصحيفة عشان المرتب، لأنهم بعد الثورة طلبوا منى أمسك صفحة الرياضة، الناس كانت بتموت في الشوارع وقت المجلس العسكري وأنا مطلوب منى أعمل كاريكاتير عن حسن شحاتة وميدو، وده كان بالنسبة لي قمة التهريج".

4

مساحات الحرية كما وصفها الرسام الثائر كانت تتضاءل بدعوى أن البلد تمر بمرحلة حرجة وعلى الجميع أن يتكاتف للعبور من مما كانوا يطلقون عليه (عُنق الزجاجة)، ولكن الحال تبدل وانقلب رأسًا على عقب بتولي الإخوان حكم البلاد " كان في مساحة كبيرة جدا لمعارضتهم ومهاجمة مرسي بكل السُبل، وده كان متوافق معانا ككتاب ورسامين عندهم مشكلة مع الإسلام السياسى ومفاهميه عن كل شيىء، شمينا نَفسنا في الفترة دي، كان فيها ثراء فني هايل وعملنا شغل يبسط الناس لسه فاكراه لحد دلوقتي". ورغم تلك المساحة الكبيرة التى حظى بها الجميع من الحرية في ذلك العهد إلا أن الريبة لم تغادر نفس أنديل قط بل تعاظمت بمرور الوقت "كنت حاسس إن في اتجاه من الجرنال لمهاجمة السلطة بشكل شرس وقتها، وده كان كويس بالنسبة لي لأن ميفعش حد يكون في إيده السلطة المطلقة من غير ما يلاقي اللي ينتقده ولا يوجهه، بس كنت متوجس جدًا من اللي جاى".

تقلصت مساحات الحرية مرة أخرى، فكانت رسوماته تبقى حبيسة الأدراج فقط لأنها تناهض ما يراه "سيُفسد المسار الديموقراطي"، فقرر الشاب ألا يهادن هو وقام بنشر رسوماته على حسابه على فيسبوك، لتقع المشاكل بينه وبين إدارة الجريدة، فيتوقف لفترة، لكن الرسومات ظلت على حالها بالأدراج المغلقة "قررت من اللحظة دي انشر ع النت وموقفش مهما حصل".

6


بعد مرور شهر ونصف تفاقمت الأوضاع وازداد عدد الكاريكاتيرات الحبيسة "كان في فلترة مُتعمدة للشغل على حساب الحرية"، ولأن السخرية والانتقاد كانا سلاحه الوحيد كتب وقتها على حسابه الخاص بالفيس بوك ما يعبر عن استيائه قائلًا "من ساعة 30-6 ولحد دلوقتي كمية الرسومات اللي اتمنعت لي في (....) ضد الجيش، أكتر من الأجوان اللي صدها الحضري في ماتش مصر وإيطاليا"، مما أثار استياء إدارة الصحيفة -خاصةً وأن ذلك كان قبل فض رابعة بأيام- فشعر أنديل أنه غير مرحب به بالمكان وقرر إنهاء علاقته بالصحيفة وتركها نهائيًا.

7

في أثناء تلك الأحداث كان أنديل يجد متنفسه الوحيد بـ"توكتوك" تلك المطبوعة التى كانت حُلمًا يراود كل رسامي الكاريكاتير، حتى تحققت بجهود من محمد  الشناوى، مخلوف، أنديل وغيرهم. الصعوبات المادية كانت حاجزًا في البداية ولكن بمرور الوقت خرجت توكتوك للنور"فجأة خمس عيال كانوا بيحلموا بقى عندهم حاجة بتاعهم يقولوا فيها اللي هُما عاوزينه، والناس بتطلب توقيعهم عليها كمان". مُبتسِمًا وفخورًا بسقفٍ من الحُرية ارتفعوا به عاليًا قالها أنديل "توكتوك من أعظم تجارب حياتي اللي بفتخر بيها، لأن الكاريكاتير فيها مش مقيد، بنرسم كوميكس حلو ونكتبه، وبنحي ثقافة استهلاك الكوميكس للكبار".

"مصر علاقتها بحرية الرأى متذبذبة جدًا وخاضعة لوضع السلطة وبالتالى الكاريكاتير مقموع أغلب الوقت" قالها أنديل موضحًا سبب غياب حرية السخرية السياسية التى يرى أنها أحد أدوات تقويم المجتمعات الديموقراطية وهى الصفة التى ينفيها عن مصر نهائيًا، فالأوقات التى حظى فيها الكاريكاتير بالحرية، حسب رأيه، كانت في أواخر عهد مُبارك وذلك نتيجة لضعف سيطرته على الدولة، وفي عهد مُرسي للتخلص من الإسلام السياسي.

12

11

يراهن أنديل على أن هذا الوضع لن يستمر طويلًا "فمستوى الوعى الحالى لدى الشعب المصري أكبر منه في عهد مبارك"، وقدر ما تبذله السلطة من مجهود لاسترضاء المواطنين هو أكثر بكثير مما كان عليه قبل الثورة، ومساحات الحرية مهما تضاءلت ستظل هُناك مساحات بديلة "هيفضلوا يحاربوا حرية الرأى ويمنعوا الكُتاب والرسامين بطرق غير مباشرة، بس الغضب هيفضل ينمو، والشباب هيكتب كل يوم ع الانترنت ويرسموا كوميكس ويعبروا عن رأيهم ورفضهم لكل سياستهم، الديموقراطية هى السبيل الوحيد اللي ممكن يدخل غضب الناس في دايرة يسهل التحكم فيها والسيطرة عليها عشان تخِف حدة الضرر"، ليختتم حديثه وهو يؤكد أنه سيظل دائمًا ضد التيار بما يتوافق مع قناعاته وآرائه والحرية التي يريد أن ينعم بها قائلًا "مصر حاليًا بلد بايظة اجتماعيًا وسياسيًا وثقافيا وبالتالي مينفعش ناخد قرارتنا فيها بناءً على المتاح والممكن أبدًا، لأن الحُرية بتنتزع مبتطلبش".

فيديو قد يعجبك: