إعلان

العبودية والخلاص من الأسر

01:24 م الجمعة 05 ديسمبر 2014

العبودية والخلاص من الأسر

تطبيق مصراوي

لرؤيــــه أصدق للأحــــداث

بقلم الشيخ - أكرم مظهر (رحمه الله):

لماذا نحن هنا؟ أي على وجه هذه الأرض، وفي خضم هذه الحياة، سؤال قد لا يسأله لنفسه كثير من الناس، رغم أنه سؤال هام، بمعرفة الإجابة عنه يحدد الإنسان وجهته ويسير في طريق تحقيقها.

فإن الله لا يعطي الإنسان العقل وإمكانية التمييز ليعيش مثل ما يعيش غيره من الكائنات، بل ميزه بهذا العقل ليكون أداة يدرك بها مهمته، ويعمل بهذه الأداة التي كرمه بها على تحقيق هذه المهمة.

ومن أعظم هذه الغايات بل هي الأصل في الخلق أن نحقق العبودية لله وحده، حيث قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات: 56].

وهذا الأسلوب اللغوي قد حصر وقصر غاية وجودنا في العبادة، وعليه يتفاوت الخلق في تحقيقهم لهذه الغاية بقدر تفاوتهم في العبودية لله سبحانه وتعالى.

ومن هنا نفهم قدر ومقام الذين اصطفاهم الحق سبحانه وتعالى من الأنبياء والأولياء، فهم مظهر تحقق هذه الغاية في هذه الدنيا، حيث إنهم هم الذين تكملوا بحقائق العبودية لله سبحانه وتعالى ظاهرًا وباطنًا، وهؤلاء هم أهل المعرفة به، الأنبياء عن طريق الوحي، كاشفهم وعرفهم فخضعوا له واستجابوا فوقفوا في مقام القرب حيث لم يقف غيرهم، وبمحض فضله اجتباهم وقربهم فسبقوا جميع الخلق إليه، بل وحمل منهم من حمل مهمة الدلالة عليه، فصاروا هداة للخلق ومعلمين للبشرية.

والأولياء عن طريق الإلهام والسكينة التي أنزلها على قلوبهم، فجعل لهم فرقانًا، أي نورًا في قلوبهم يفرقون به بين الحق والباطل، فأقبلوا على الحق واتبعوه وأعرضوا عن الباطل وهجروه.

فعلموا من الله ما لم نعلم، وورثوا عن الأنبياء، بل ورثوا مهمة الدلالة على الله من بعدهم فهم ورثة الأنبياء حقًّا.

وأهل المعرفة والوصول صنفان، صنف اجتباه الله بمشيئته، وصنف قد ولى الحق هدايتهم بإنابتهم؛ ولذا ذكرهم في كتابه العزيز قائلا: {اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} [سورة الشورى: 13].

فالأول قد سبقت له من الله الحسنى، فأخذه من نفسه إليه، وأفناهم عن أنفسهم لأجله، فهم صفوته من هذا الخلق، اختارهم على علم، واصطنعهم لنفسه، وهيأهم لهذا القرب وجعلهم من أهل الأنس به، وأيدهم بولايته، وشملهم بعنايته، فانظر كيف نادى الله موسى وعرفه بنفسه وثبته وأيده بالمعجزات، وعرفه بالمهمة وطمأنه بالمعية.

عرفه بنفسه فقال: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [سورة طه: 14].
وأيده وثبته بالمعجزات، فبعد أن ألقى عصاه بأمره، وفزع من تغير حالتها قال: {قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى} [سورة طه: 21]ثم عرفه المهمة فقال: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [سورة طه: 24]. ثم طمأنه بالمعية فقال: {قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [سورة طه:46].

فأين فعل موسى عليه السلام أو جهده ليصل إلى هذه المكاشفة والمعرفة، إنه اصطفاء واختيار من الله، اجتباه بمشيئته واختاره على علم.

والصنف الثاني رجل جاهد في الله، وداوم الرجوع والإنابة إليه مخلِصًا (بكسر اللام) لله سبحانه وتعالى، طالبًا القرب منه، وما زال في جهاده صادقًا طائعًا، كلما حاد عن الطريق رده إخلاصه وعاد تائبًا نائبًا طالبًا لله سبحانه.

فلما رأى الحق منه صدق الطلب وحسن التوجه وملازمة الباب قرَّبَه وأدناه، وجعله مخلَصًا (بفتح اللام)، فجعل له الخلاص بعد أن أظهر هو الإخلاص. وانظر إلى دقة اللفظ القرآني لنفهم معنى القرب الحقيقي والمعرفة بالله سبحانه وتعالى .. فالحق يقول في الآية المذكورة: (يَجْتَبِي إِلَيْهِ) و(وَيَهْدِي إِلَيْهِ)، أي أن الأمر أمر معرفة وقرب، ولم يقل يهدي إلى الطريق أو إلى الإيمان أو العمل الصالح، بل قال: يهدي إليه، أي أن هؤلاء قد أوصلهم الحق إلى أعلى مراتب العارفين، ولا شك أن هذا قد انطوى على هداية إلى الاستقامة والعمل الصالح ظاهرًا وباطنًا، فكل باطن لا يشهد له ظاهر فهو كذب.

فكيف يدعي إنسان حسن السريرة ونور المعرفة في القلب وهو يضيع الفرائض، أو يبارز الحق بالمعاصي، هذا لعمري يكذب على الله قبل أن يكذب على الناس.

ولكن هؤلاء الصفوة لم يكن منتهاهم في السير إليه ظاهر العبادات، بل هيأهم الله للقرب منه وأنسهم بلطفه وفاض عليهم بعلوم المكاشفة التي عبر عنها في وصف العبد الصالح الذي لقيه موسى فقال سبحانه: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [سورة الكهف: 65].
ففرق بين العباد والعبيد، فكلنا عبيد ولكن البعض عباد .. عباد اصطفاهم الحق إليه وسماهم (عباد الرحمن)، (أولياء الله)، (عبادي)، ألفاظ قرآنية تبين قرب هؤلاء من الله وحبه لهم سبحانه وتعالى.

ولذا فإن المؤمن الصادق لا يجب أن يقف في صلته بالله عند أداء العبادات الظاهرة وإقامة النسك فقط، ولكن يجب أن يسعى إلى تحقيق العبودية الكاملة لله وحده في كل حال.

فالعبادة التي يؤديها العبد، لها وقت تستغرقه، فهو يشرع في الصلاة ثم يفرغ منها بالتسليم، ويبدأ صومه في الفجر وينهيه في المغرب، هكذا كل عبادة يشرع فيها العبد لا بد أن يخرج منها، فلا يمكن أن تستغرق العبادة الوقت كله، ولكن العبودية التي تستقر في قلب العبد ووجدانه، وتشرق أنوارها على نفسه فتزكيها وتنقيها، هذه العبودية هي ثوب إذا لبسه العبد لا يخلعه أبدًا، فهو في لذتها في كل وقت، يشعر بالقرب والأنس بالله في جميع أوقاته.

هذه العبودية التي تورث صاحبها السكينة فيطمئن قلبه، وتهدأ نفسه، ولِمَ لا؟ وهو قد أشرق قلبه بنور المعارف وأصبح يرى ويسمع ويسير ويبطش بنور من الله، فهو القائل في الحديث القدسي الذي رواه الإمام البخاري وأحمد بن حنبل والبيهقي: (كنت سمعه وبصره ويده ورجله).

اطمأن القلب وسكن لأنه يرى هذا الكون صنعة لها صانع حكيم، وأيقن أن تدبيره خير تدبير، فسكن قلبه لاختيار ربه، وذهب عنه طمع نفسه فهو مفوض لله الأمر كله .. فإذا تحرك وسعى وأخذ بالأسباب فهو في طاعة لله بإقامة سنته وإعمار أرضه والإصلاح فيها ما استطاع، فهو آخذ بالأسباب، معتمد على رب الأسباب.

هذه العبودية الكاملة لله هي التي تفك أسر صاحبها، فكل منا أسير .. هذا أسير عادة، وهذا أسير حبه للمال، وهذا عبد للمنصب والجاه، وهذا ذليل للشهوة، وهذا وهذا .. أما عباد الرحمن، فإنهم لم يستحقوا هذا الوصف إلا لأنهم عباد له وحده، خلصتهم عبوديتهم لله من كل عبودية لغيره، فلم يفرحوا بالموجود، ولم يحزنوا على المفقود، فقلوبهم وأرواحهم معلقة بمولاها، مشتاقة له، تعيش في سجن الجسد إلى حين موعد اللقاء .. فكيف لعبد الله أن يخضع لسواه.

هذه العبودية أورثتهم الأدب والتواضع، فشهودهم ومعرفتهم أورثتهم الحياء من الله، فلما أيقنوا أنه ناظر إليهم، ولما عرفوا أن الخلق ميدان لعبادة الحق، أحسنوا إلى الناس وتواضعوا للناس، وتأدبوا مع الناس، وتحملوا الأذى من الناس، وما مقصودهم الناس، ولكن مقصودهم رب الناس .. فظاهرهم مع الخلق وقلوبهم مع الخالق، وأجسامهم بين الناس، وأرواحهم تعرج شوقًا إلى مولاهم.

ولما كانت لهم هذه الأحوال السنية والمعارف العلية، أظهر الله لهم البشارات وأجرى لهم الكرامات .. فصدق بذلك من صدق وأقر بفضلهم، وأنكر ذلك من أنكر فخاض في عرضهم وأكل من لحومهم.

فكم خاض جاهل في الأولياء وأنكر علومهم، وهذا ميراث من مواريث النبوة، فكذلك الأنبياء كانوا إذا جاءوا للناس بما لا يعرفون آمن من آمن ، وكذب من كذب.

ولكن ما يضير هؤلاء الصفوة أن يجهلهم الخلق .. فكيف يضيرهم جهل الخلق بعد معرفة الحق؟ والله لا يهتمون بإقبال الخلق عليهم، ولا معرفة الناس لهم، فقد أقبل رب الناس ونادى (يا جبريل إني أحب فلانًا فأحبه) متفق عليه .. فهل بعد حب الله وحب أهل السماء ينشغل قلب بحب الناس أو معرفتهم.

الظهور والخفاء عندهم سواء، فكما قيل: من أحب الظهور فهو عبد للظهور، ومن أحب الخفاء فهو عبد للخفاء، أما عبد الله فسواء عليه أظهره أو أخفاه.
لقد تخلصوا من أسر النفوس وأهوائها، فلم يعبئوا بشيء، فنحن إذا تخلصنا من الطمع فيما في أيدي الناس سكنت قلوبنا، وهل يتعب الإنسان في حياته إلا طول محاولاته في إدراك ما ليس عنده من متاع هذه الدنيا، والأصعب من ذلك محاولته إدراك ما لم يكتب له من الرزق، فيعيش في كبر وفي أسى من جراء سعيه لإدراك ما لا يدرك.

وغفل الإنسان في هذا السعي أن الغاية أن يكون عبدًا، وأنه بهذه الغاية وحدها يطمئن قلبه، فأهل الذكر هم أهل الطمأنينة، وأهل الولاية هم الذين رفع الله عنهم الخوف والحزن .. فمن طلب هذه العطايا من الأمن والطمأنينة بمتاع من الدنيا فهو يعيش في وهم، فقل أن يحدث هذا والنفس طامعة في المزيد، وإن توهم تحصيله، فهو وهم ما يلبث أن يزول بانقضاء عمره وزوال هذه الأسباب الظاهرة عنه.

فكل عز أو فرح أو فخر يعتمد صاحبه على أسباب فانية، لا بد أن يزول عنه سريعًا إما بزوال هذه الأسباب، أو بزواله هو عن هذه الأسباب ومفارقة هذه الدنيا.

أما هؤلاء الأصفياء فإن عزهم وفرحهم وفخرهم باقٍ لأن مصدر هذا كله هو الباقي سبحانه وتعالى، فهو الذي أعزهم فلا يزول عزهم في الدنيا ولا في الآخرة.

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان