إعلان

باب ضريح السيدة زينب.. غسيل الذنوب وطلب العطايا

حازم دياب

باب ضريح السيدة زينب.. غسيل الذنوب وطلب العطايا

11:58 م الثلاثاء 12 مايو 2015

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

بقلم - حازم دياب :

كنا قطعة خشب واحدة، اجتثت من شجرة في الغابة، كان الونس يحدق بنا من كل جانب، ما أن يهدأ حفيف الطيور، وركض الحيوانات، حتى نخلو إلى أنفسنا، نتذاكر أنساب عائلتنا الممتد إلى مئات القرون، حتى جاء أحدهم بغتة، حاملاً فأسه، قاطعاً شجرتنا جزئين، غير آبها بعتقنا، أو عراقتنا الضاربة في الجذور، أعطى أحدهما لنجار طالباً منه الاعتناء بي وبشقي الآخر المبتور، قائلاً في اقتضاب "هاتان قطعتان، ليستا ككل القطع، منهما يخرج باب لمسجد، وباب لضريح، ترقد فيه حفيدة رسول الله".

وقف النجار أمامي حائراً، يعرف أنه صنيعه هذه المرة ليس كأي صنيع، لن يكون باباً عادياً يصفقه أصحاب المنازل وهم خارجين، أو يستبدلونه كل حين، حتى باب المسجد وما به من نقوش، لا يساويني في شيء، أنا البرزخ، الحد الفاصل بين القلوب المثقلة بالهموم، والصدور منشرحة البال. لا أختال على شقي الثاني الذي أحيل باباً، كلنا عائد إلى الأرض، لكنه يتحدث أحياناً عن كون الداخلين من خلاله يخلعون نعالهم، سائرين في هيبة وتؤدة على سجاد الجامع الطولي. يتغافل عن كون هؤلاء، لا يمرقون من عتبة بابي، إلا وهم متطيبين بالروائح والمسك، من يدلف عبري يوزع عليه التمر، وتزكم أنفه روائح البخور، يعيش أجواء ينفصل بها عن كل عالم، ويندمج في صخب دراويش يلهج لسانهم بذكر الله، وأهل بيته، ويخص صاحبة الضريح، ابنة الإمام علي، بمديح خالص الصفاء: "يا لهفتاه لزينب، تبكي خائفاً وتندب، من دمعه الشعر تخضب، والدمع كالغيث يسكب، وهي بغير رداء، والهفتاه يا حسينا، يا سيد الشهداء".

هل أسرفت في الحديث عني، ليس بعد، لم أقص حكاية نشأتي كاملةً.. لم أخبركم كيف شذب النجار خشبي، كما يهذب الشاب لحيته.. قشر الشجرة، كحلاق يقص الشعر في مهارة، عراني في الهواء، غمرني بدهانات ذات رائحة نفاذة، أخذ يخط التعاريج، ويجعل للباب ملمس كالحرير، لا يجرح من يتبركون به، ويضعون أيديهم عليّ بالساعات، فلست كباب الحديقة يُفتح طوال اليوم دون أن يلمسه زائر. صرت ضلفتين، وضع على أحدهما كلمة الله في شكل دائري معدني، وفي الضلفة الأخرى وضع اسم سيد الخلق، وجد صاحبة البيت: محمد.

جميع المارين من بابي، متساوين كيوم خرجوا من رحم أمهاتهم، عرايا، لا يسترهم شيء، الباشا الكبير، الذي منع الله عنه الصحة، يجثو هنا على ركبتيه، يحمل الطلب للراقدة بين الأوشحة الخضراء والبيضاء، لعلها تشفع له عند ربه، ليمنحه عمراً يتمتع فيه بثروته.. السيدة الوقورة، لا تتوقف عن النحيب، دموعها تنهمر في توسل، تسترضي ابنة الإمام، وبنت الطاهرة فاطمة، بأن تفك عقدة زواجها، أعوام تنقضي، والعمر ينسرب من بين يديها، تخشى أن تموت وحيدة، لا تجد من يحمل نعشها، أو يشاركها خوف اللحظات الأخيرة.. جندي عسكري، ملابسه خضراء، يتطلع إلى أجواء الضريح في انبهار، يشخص ببصره ناحية الورود الزاهية، المسقوف بها الضريح، يمحي صورة الرمال الصفراء من خياله، المعسكر الذي قض مضجعه، وجعله يرى الموت أكثر من مرة، حين دخل العسكرية، أوهموه بأنه ذاهب لأرض الفيروز، لم يجن إلا ذعر من مفارقة الحياة، دون أن يدخلها. صنوف من البشر، يموجون في تتابع كالبحر، لا ينقطعون عن المرور، لا يخجلون من وجود مكتظ، لا يأتون إليّ إلا بكرب يكبلهم كالقيد، يجثون أرضاً في خضوع، يرفعون أيديهم في رجاء، يعلقونني في تذلل، يحلمون بانكسار القيد، يعزون أنفسهم ببركة السيدة زينب الشريفة، التي لا ترد طالباً، ولا تخيب راجياً، باب الأمنيات الذي لا يغلق في وجه أحد.

أظنكم تحيطون علماً، بذلك الأديب يحيى حقي، الذي أسره الضريح الساكن خلف عتبتي، وصاحبته "أم هاشم"، وسحر لبه قناديل الزيت المعلقة، ذلك الزيت الذي يشفي العيون، ينقحها من كل مرض، ويهذب بصيرة القلب، ليشع النور من الداخل، قبل أن تبهر العين أضواء الخارج الزائفة، هنا لا مكان للاصطناع، لا جدوى من الأحاديث المزعومة، والمشاعر الخادعة، أنا باب الصدق مع النفس، والتطهر من الخطايا، وتلمس آيات الغفران. لا تتهمني بهتاناً بالكِبر، فأنا باب التيه، باب الاعتداد بالنفس، الباب الذي يعرف ماذا يحوي داخله، ومن يقف على عتبته، باب يحرس ضريح بنت بنت رسول الله، فكيف لا أتيه بنفسي؟.

 

إعلان