إعلان

"العرابي" بعد السجن.. مايزال حبيس عنبر "ج" في طرة

06:20 م الثلاثاء 26 يوليه 2016

الشاب "أحمد العرابي

تطبيق مصراوي

لرؤيــــه أصدق للأحــــداث

كتبت- شروق غُنيم:

غرفة ضيقة المساحة، حجبت الحياة ومفرداتها عن أربعة عشر شخص، شباك صغير مُسيّج كان المنفذ الوحيد لهؤلاء، لكي يطلوا على ما سُمِح لهم برؤيته، مشاهد غير مُكتملة، ومشوّشة، والرصاصيّ القاتم كان اللون الوحيد الذي اعتادت عيونهم على رؤياه، حتى آلفته، وربما لم تستطَع استيعاب ألوان أخرى غيره، 15 شهر مكث خلالهم الشاب "أحمد العرابي"، يبلغ من العمر 30 عامًا، في عنبر "ج" باستقبال طرة، على خلفية القضية المعروفة إعلاميًا بـ"الاتحادية"، قبل أن يخرج بسبب العفو الرئاسي الذي شمل 100 شباب مختلفين من المسجونين سياسيًا.

في سبتمبر من عام 2015، كُتِب لأحمد أن يخرج من العالم الضيق، إلى آخر أكثر رحابة، أُدرِج اسمه ضمن قائمة العفو الرئاسي التي شملت مائة شاب، استقبل حينها القرار بسعادة منقوصة، "كنت فرحان جدًا، أخيرًا هخرج، في نفس الوقت اللي مكنتش قادر استوعب إني هسيب صحابي هنا، واللي عارف إنهم أبرياء، لكن فكرة إني ممكن أوصّل صوتهم كانت بتهوّن عليّ".

في منزله، الغرفة تمتلأ بالصباح، مفروشة بأشعة الشمس، أو يحِل عليها الليل كاملًا دون حِجابٍ، بدأ أحمد مرة أخرى في التعاطي مع الألوان المختلفة، سحرها الذي أبهر عيناه، بعد أن سكنها لونًا واحدًا قاتمًا، كان يعكس الأيام التي عاشها في عنبر ج "أخيرًا أنا هنام على سرير"، العودة مرة أخرى للتعامل مع أدوات الحياة البسيطة التي افتقدها بمدة حبسه، بعد أن كان يفترش قطعة قماش لا تقيه من صلابة الأرض أو بردِها "وأنا نايم على الفرشة كنت بخلي بالي قبل ما أتقلّب، كنت بخاف أصحي حد، لأني عارف كويس إنه وهو نايم بيكون في كامل السعادة، النوم كان سلاحنا ضد اللي مرينا بيه".

أصبح بإمكان عينيّ أحمد أن تتشبّع برؤية القمر كاملًا "كنت بتمنى أحقق حاجات ممكن غيري يشوفها تافهة، لكني طول ليالي السجن، كنت بتمنى بس إني أشوف القمر، وربنا كان رازقنا بزنزانة بتطل عليه، لكنه كان بيبقى مشقق من السلك"، كان يتراص الأربعة عشر سجينًا حول النافذة، باهتمامٍ بالغ، لكي تشبع أعينهم من هالته البيضاء.

"الميّة يا شاويش"، الجملة التي حفظها كل من وطئت أقدامه السجن عن ظهر قلب، انتهت في قاموس أحمد، بعدما تلمّس اختراعًا جديدًا يُدعى "الموتور"، "المية في السجن كانت بتيجي في وقت معين، كبيرها خمس دقايق في وقت الصلاة، وبليل الساعة 12 لغاية واحدة، وبعدين الفجر"، اختلف الوضع تمامًا عند العودة إلى منزله "لما رجعت البيت حسيت إن الموتور بالنسبة لي اختراع، هبة من عند ربنا، مش لازم أخبط على باب حديد عشان خاطر آخد شوية مية".

يواصل أحمد في التعاطي مع مفردات الحياة التي غابت عنه، وافتقدها بالسجن، كان عليه أن يُكدّس مقتنياته في شنطةٍ واحدة، تُعلّق بالعصفورة، والتي كانت عبارة عن محاكاة لوظيفة "الشماعة"، ولكن من خلال استغلال حديد يتدلّى من خرسانة العنبر، لكن في سَكنْه تلهّف في إعداد الملابس بنفسه بداخل "الدولاب"، يقول: " لما خرجت، قولت لأمي سيبيني مع الدولاب افرشه، وأطبق هدومي وأرصها، من بعد ما كنت بحط هدومي وفلوسي في شنطة وأعلقها في عصفورة السجن".

كان يحاول أحمد أن يُعوّض ما فاته بداخل السجن، رُغم أنه يرى أنها تفاصيلٍ قد تبدو لمن يتعاطى معها يوميًا بأنها "تافهة"، أو يكاد لا يشعر بها، لأنه معه طوال الوقت، وفي خضم اشتباكه مع الحياة، كانت تجربة السجن لا تغادر الذهن، خاصًة، عندما يتعامل مع الأشياء بعينها باختلاف الأماكن.

على سبيل المثال، الجبن، الوجبة الرئيسية، التي "يسنِد" بها المسجونين جوعهم، أصبح عدوًا لدودًا بالنسبة لأحمد بعد خروجه، "من ساعة ما خرجت وأنا عندي عقدة نفسية منها، ومجرد وجودها على طاولة الأكل، بيسبب لي ضيق وخنقة"، وأصبح يعاني من مشكلة الاستيقاظ من النوم، بعد تجربة مُفزعة خاضها مع أحد المخبرين بالسجن "أمي بطلت تصحيني لإني بقوم مفزوع، في السجن كان بييجي مخبر -مُطابق للمواصفات الذهنية لكلمة "عشماوي"- يصحينا، وممكن يدوس علينا، لحد دلوقتي بفتكر إني موجود في السجن وإن هو اللي بيصحيني"، التجربة التي مر بها كليًّا جعلت مروره بضابط شرطة في الشارع، احتمالٍ كابوسيّ، ينظر له بتوّجس وهو يشعر أنه "من الممكن، في لحظة، يدمّر لي حياتي، وأتسجن من تاني".

مع كل سيجارة يُشعلها، تتوقّد ذكرياته حينما كان يقف أمام باب العنبر لـ"شرب سيجارة"، دون أن يأذي باقي زملاؤه، رائحة حديد الباب أصبحت لصيقة بهذا الموقف، بعد أن تأقلم عليها، ويستدعي الموقف كله بسبب الرائحة، الباب نفسه أصبح هاجسًا بالنسبة له "الناس بتحب الخصوصية، لكن بعد ما خرجت، مجرد وجود باب حديد مقفول، بيستدعي إحساسي بالحبس".

"عملنا انتخابات داخل العنبر" أصبح قياديّ من جماعة الإخوان هو مسئول العنبر كله، وشاب من حركة 6 إبريل المتحدث الإعلامي، وآخر من قضية غرفة عمليات رابعة "كان لازم نتفق، عشان العنبر ميتحولش لغابة" لا يزال أحمد محتفظا بتفاصيل الزنزانة.

استحوذت القراءة على شغف العرابي لأول مرة خلال فترة سجنه "كنا عاملين مكتبة في العنبر، قبل آلات الكشف الجديدة، كنا بندخل كتابين مع الأكل في الزيارات، وضمت المكتبة 150 كتاب مختلف، من روايات لكتب إسلامية، وكتب أكاديمية، قبل ما أدخل المكان ده مكنتش مهتم بالقراءة، كنت بطئ، لكن بحكم حاجات كتير، وأنا جوة السجن قدرت أقرأ كتب كتير".

تناوب 14 شخصًا على رواية "في قلبي أنثى عبرية" لخولة حمدي، يبتسم أحمد ثم يُكمِل: "عُمري ما أنسى إننا ضربنا رقم قياسي في قراية الرواية، 14 شخص قروها في يومين بس"، كانوا يتسللون إلى عوالم أخرى عبر الكتب، وينسوا تمامًا أنهم في هذا المكان، الانغماس في القراية أفرزت شُعراء، وفاض البعض بما يحملون في هيئة أغاني، ونصوصٍ شعرية، "عشان يقضوا على الفراغ اللي كان موجود".

استطاع اختلاس لحظات سعادة خلال وجوده، كان أبرزها حينما قدِم طلاب محبوسين تربطه بهم علاقة صداقة إلى استقبال طرة، بغرض الامتحانات، "كان منهم ناس كتير أعرفهم، قعدت معاهم في وقت التريّض، اتكلمنا وضحكنا، وغنينا سوا للشيخ الإمام، كانت حاسس معاهم بروح الثورة من تاني، ومكناش متخيلين إن رحلتنا من الميدان، تنتهي في الليمان".

تفاصيلٍ كثيرة يمتلكها أحمد، تختزنها الذاكرة، تخصّ أيام الثورة، وما تلاها، وما مرّ به في السجن، الذي يعتبره "دولة داخل الدولة"، بما رآه من إدارة بالداخل تقوم على حياة الأبرياء، طالبه أهله بالابتعاد عن أي نشاطات احتجاجية "أهلي بيلوموا عليا إني لسة مؤمن بالثورة، عاوزني أبص لنفسي، وارتبط أو اتجوز، لكن كل اللي أنا بعمله عشان الأجيال اللي جاية، وعشان ياسين ابن أختي ميدوقوش اللي إحنا شوفناه".

تابع باقي موضوعات الملف:

1-      بعد الإفراج.. محمود يحيى: بقيت أعرف أبص للسما.. والسجن غير اللي بيجي ف التليفزيون

undefined

2-      "صلاح" و"عبد الخالق".. توأم حمل السجن إلى الحياة

undefined

3-      ستة أشهر داخل "مركز الكفار".. ما فعله السجن بـ"طه"

undefined

4-      ياسين "سجين سياسي": اللي عاش عمره "سجن وضرب" صعب يتعود على الحياة الطبيعية

undefined

5-      المجلس الدولي العربي لحقوق الإنسان: التطرف والجنون مصير السجناء بعد خروجهم (حوار)

undefined

6-      أحمد الدريني يكتب- الشيخ أحمد.. زنزانة العريس الراديكالي

undefined

7-      مساجين برة الزنزانة.. الحياة "عنبر" كبير (ملف خاص)

KgJIcwI

فيديو قد يعجبك: