إعلان

قصة حديقة المريلاند.. إهمال يفضي إلى موت

01:29 م الإثنين 30 مارس 2015

تطبيق مصراوي

لرؤيــــه أصدق للأحــــداث

كتب-رنا الجميعي وإشراق أحمد:

الجفاء والترك ولو دون عمد له وقعه السيء المتدرج؛ من فتور إلى ضعف، حتى إن استحكمت تلك الحالة؛ ضاق النفس، ومرض الجسد، وبات من الشاكين عله يجد مجيب؛ هذا فعل الإهمال، لا فرق في تأثيره بين مريض ومستشفى، سائق وطريق، عقار وساكنه، منطقة راقية وأخرى مصنفة شعبية، وحديقة ومرتادها، فهي دائرة واحدة إن تمكن الاهمال من إحدى حلقاتها، أفسدها ونخر العطب بها حتى تلفظ أنفاسها، كذلك حال حديقة ''الميريلاند'' أحد أقدم المتنزهات في مصر. 

جنة الميريلاند و''خراب'' الواقع

يحكوا عنها كما الأساطير، يعودوا إلى الماضي كلما سردوا عنها، أما الحاضر فيتجنبوا صورته في أحاديثهم، كانت حديقة الميريلاند تاريخًا جميلًا يتباهون به، كونها ''من أيام الملك'' حيث كانت ناديا لسباق الخيل تتصل بالمقصورة التي يجلس بها الملك ليشاهد السباق، ثم أصبحت أرض السعادة كما أطلق عليها منذ عام 1963.. مرت السنون وطالها ما طال المحروسة، غير أنه منذ أكثر من أسبوع استيقظ أهالي مصر الجديدة على قطع الأشجار بالحديقة العريقة، لم تكن بحال جيد كما كانت في الماضي، بل صارت مجرد الحديث عنها حكاية تسرق ابتسامة على شفاه روادها القدامى.

رئيسية1

كان سامي أبو زيد ابن 12 عاما، حين صحبه جده إلى متنفس مصر الجديدة، حديقة فسيحة وعده والد أبيه أن عينه سترى مالا رأت يومًا، وقد كان؛ في الميريلاند ذكريات الرجل الأربعيني، عن اجتماع عائلته وقت الإجازة، والأعياد خاصة شم النسيم، الأشجار الوارفة، الزهور المختلف ألوانها ''كان في حيوانات والبحيرة اللي كانوا يسموها الشو لاند''، السعادة التي تغمر الأب والأخوات والخلان وقت اجتماعهم في الحديقة الأقرب لمنطقة نشأته بسانت فاتيما.

''كانت جنة'' يقولها ''أبو زيد'' بتأثر، فيما تتجه أنظاره صوبها، بالجهة المقابلة لمجلسه داخل العقار المطل عليها، بات عمل الرجل حارسا للعقار، لا تفارقه الحسرة يوميا على الطفولة التي كانت وجهة فرحتها إلى ''المريلاند''، والتي لم يفكر ''أبو زيد'' يوما في معاودة فعل جده مع أولاده ''خلاص مبقتش زي الأول''.

2..

المريلاند يضعها الموقع الرسمي لمحافظة القاهرة ضمن المقترحات لمناطق السياحة والأثار، ويصفها أنها ''أشهر الحدائق في مصر''، فيما يتضمن التعريف بـالحديقة تقسيمها إلى ثلاثة أجزاء، الشرقي منها عبارة عن حديقة عامة بها بعض الألعاب الترفيهية، والغربي به عدة مطاعم، فضلا عن الكافتيريات وبحيرة للبجع، وملحق به صور لـ''الملاهي'' وبعض الزائرين، تلك المشاهد التي لم تتغير على الموقع الرسمي منذ عام 2009 كانت تعبر ''رئة مصر الجديدة'' كما يصفها الكثير من السكان، قبل أن يطوله الاهمال البادٍ عليه.

جنيه واحد هو ثمن دخول الحديقة، التي رغم أنه الوقت المناسب لتفتح الأزهار، وأن تكون الأشجار في أبهى حلتها، حيث الربيع، غير أن ''الميريلاند'' بدت شاحبة، مُقبضة للنفس، فأثار التهديد بالفناء بيّنة، من أفرع عجوز، تكاد تكون ميتة، نجيل عطش للمياه، بعض الأشجار مقطوعة، فيما غفلت الإدارة عن بعض المساحات ''فتشرّبت'' أرضها المياه.

مع كل خطوة يظهر أثر لهدد جديد، ألعاب أطفال متهدمة عن بكرة أبيها، حتى السور المحيط بها محطم، المقاعد الحجرية لم تسلم كذلك، تمثال أبيض يبدو أنه كان يوما في هيئة أفضل، عن اليوم الذي يحيط به فروع شجر رمادية متكاثرة حوله كأنما بيت عنكبوت، ''اتقال إنها بتتجدد'' كلمات تناهت إلى سمع السائق ''فتحي محمد'' لكنه لم ير فيها أي تجديد.

حسب تاريخ الحديقة المملوكة لشركة مصر الجديدة للإسكان والتعمير، فقد احتوت على بحيرة ومراكب وحديقة حيوان مصغرة، كما تم إنشاء ثلاث كافيتريات للجمهور، في عام 1997 أنشأ بعض المطاعم ومنطقة للألعاب الترفيهية، لكن اليوم لم يبق من كل ذلك سوى أطلال وسمعة سيئة أن الحديقة تحولت لتجمعات ''منافية للآداب''، فمن يتردد عليها، يمكن إحصائه على أصابع اليد الواحدة، وجميعهم ذو سمت واحد، مِن شباب صغير السن في غالب الأمر، فتيان وفتيات يتأبطون بعضهم البعض، يصفونهم أهالي المنطقة والعاملين بـ''الحبيبة''. 

3.

''محسن'' يجلس بأطلال الميريلاند

خلاف هيئة مرتادي الحديقة المعروفين، لم يبالِ ''محمد محسن''، جلس هادئا تحت شجرة طاعنة في الكبر، مثل عمره المتجاوز 60 عاما، جواره على المقعد وضع غدائه في حقيبة بلاستيكية، وجهه صوب باب الدخول، يحمل في نفسه ذكرى زوجته التي كان يرافقها إلى ''المريلاند''، حينما كانت الحديقة قِبلة ''ولاد الذوات والناس الكبار''، يتذكر المطعم الذي طالما تناولا فيه الغذاء، والركن الذي احتضنهما مع أبنائهما الثلاثة، ولم تمسه أقدامه منذ 15 عاما بعد وفاة زوجته ورحيل ابنته الكبرى.

منذ قرابة أسبوع قرر الرجل المسن التردد على الحديقة، فهي المكان القريب من منزله، والزهيد في ثمنه، فضلا عن حبه الشخصي له، يأن لتغير حاله إلى الأسوأ، يتمنى لو عاد كسابق عهده، يقسم أن المسؤولين عنه لو أرادوا جديا تطويره ''هاكون أول واحد يلبس جوانتي في إيده ويلم الزبالة اللي في الأرض دي''.

''مي'' جارة الحديقة 

بالعقار المجاور للحديقة، تطل ''مي محمد'' من شرفتها يوميا لتراها، منذ قررت الاستقرار في مصر، ومغادرة السعودية، كان وجود مساحة مزروعة أمام منزلها، مطلب رئيس، لأنها ''تتنفس مع الزرع''، فمنذ سبع سنوات والسيدة الخمسينية تبصر المريلاند، ''كانت أحلى من النيل'' تقولها السيدة التي لم تطأ قدماها يومًا نجيل الحديقة ''عشان بخاف عليا وعلى عيالي'' فالسمعة الملتصقة بالحديقة تمنع السيدة.

حاولت ''مي'' أن تتناقش مع إدارة الحديقة لجمع تبرعات للعناية بالأشجار لكنها لم تجد اهتمام، لم ترَ السيدة بعينيها قطع أشجار الحديقة، لكنها تعلم جيدًا أن عقد شركة مصر الجديدة بامتلاك المريلاند ''حديقة عامة''، كما توقن أن السبب فيما وصل إليه حال المنتزه بسبب نقص المواد ''لو اهتموا بها.. حطوا بس حنفيات رش هتبقى جنة''.

''يارب الوقف يكون بجد''

19 مارس اجتمع رئيس حي مصر الجديدة بالأهالي، كان الموضوع المطروح إقامة جراج للسيارات بمنطقة روكسي، غير أن غضب الحاضرين مِن فِعل قطع الأشجار بالمريلاند، والمشروع المتداول الحديث عن إنشائه، فرض مناقشة أمر الحديقة حسب قول ''محمد مصطفى'' أحد سكان مصر الجديدة والحاضرين للاجتماع، لم يخرج الرجل الخمسيني بشيء يطمئنه أن الحديقة ليس مصيرها التدمير، ''لو حصل فيها حاجة المنطقة كلها هتبوظ'' هكذا يرى ''مصطفى'' عاقبة تطور المسألة، متمنيا أن يكون وقف العمل فعل جاد، وليس لتهدئة السكان.

باليوم التالي للاجتماع جاء قرار محافظ القاهرة ووزير البيئة خالد فهمي بتشكيل لجنة خاصة بزراعة الأشجار، وتحرير محضر ضد الشركة المسئولة عن تطوير الحديقة لعدم حصولها على موافقات بيئية، وإيقاف أعمال التطوير لحين دراسة الموقف.

4.

لا حق للسكان في اتخاذ القرارات

داخل الحديقة لازال أثار العمل متواجدة، بعض السيارات التابعة لشركة مصر الجديدة للإسكان والتعمير متوقفة، وهناك سيارة بها شجر، كما أن أعمال التطوير المقامة على الحديقة محاطة بحواجز لا يسع أحد رؤية ما مقام خلفها.

''مفيش أي شفافية من الحكومة'' تقول ''أمنية خليل''، باحثة معمارية، وأحد جيران الحديقة، حيث قام أعضاء من فريق عملها بعد سماعهم عن هدم الأشجار، بدخول الحديقة وسؤال الإدارة عما يُقام، فتلقوا إجابتين مختلفتين، أحدهم قال ''هيتعمل مول''، والآخر أجاب ''هيتبني عمارات''، كانت الإجابة غير مهنية كما تصف المهندسة، فالردود زادتهم حيرة''.

اهتمام الباحثة ''أمنية'' بقطع الأشجار دفعها للبحث على الانترنت، والولوج لموقع المحافظة من ثم منطقة حي مصر الجديدة، ليتسنى لها معرفة المشروع الذي سيقام، لكنها لم تحصل على أي إجابة، ''طيب لو فيه مشروع فين النقاش المجتمعي، في الآخر الحديقة هي مكان خدمي للأهالي'' تسأل الباحثة، التي تجد أن المشكلة الأساسية هي الضبابية في التعامل مع المواطنين، وأن صانعي القرار غير مبالين بمشاركة القرارات مع المواطنين.

التطوير.. ''إنشاءات خرسانية''

سبق أن صرّح وزير البيئة ''خالد فهمي'' في مداخلة هاتفية بأحد برامج ''التوك شو'' أن شركة مصر الجديدة لم تحصل على موافقة بيئية للمشروع، فيما أكد رئيس الشركة ''علي مصطفى'' بمداخلة هاتفية أيضًا أن الحي لم يحتاج موافقة بيئية قبل الحصول على تراخيص منهم، وقالت ''إيمان يوسف''، المتحدث الإعلامي لرئاسة حي مصر الجديدة، أن الحي أعطى الشركة ''رخصة انشاءات خرسانية مش تقطيع أشجار'' ولم تحدد ماهية الانشاءات، وذلك ردا على الاتهام الموجه بمعرفة الحي لأعمال التطوير المتجنية، وأضافت أنه جاري مداولة الأمر وخلال الأسبوع القادم سيكون هناك آلية حسم للموضوع.

5.

فساد المكان يفسد أصحابه والعكس

على أرض ''المريلاند'' يسير جمال فؤاد بخطوات متئدة، حاملا جوال أبيض، خالطته الأتربة من كثرة التنقل بالحديقة، عينيه تنقب عن علبة ''كانز'' معدنية، وكل ما هو ملقى من مهملات مفيدة، فيَهم بالتقاطها ووضعها في ''الكيس''، تبدلت أحوال الرجل الأسمر ذو الخمس والأربعين ربيعا كما الحديقة؛ ترك العمل بالكافيتريا ''مقدرتش اتحمل الايجار فسبتها''.

قبل 20 عاما كان ظهره منتصبا يقدم المشروبات ويبيع الحلوى للصغار المترددين، يبتسم لرؤية الأشجار والزهور والرزق الوفير، بينما اليوم لا يرفع عيناه عن الأرض ''بقت خرابة'' يقولها بتأفف رغم أن وجود المهملات يعني الرزق بالنسبة له، لكن إهمال المكان حد قبح منظره لازمه تغير السلوك للسيء.

بين الحين والأخر يشيح ''فؤاد'' بوجهه، ينشغل بـ''أكل العيش'' كعامل نظافة بالحديقة، يلهيه ذلك عما يخدش نفسه أثناء تنقله بأرجاء المكان، فقد اعتاد الرجل على المشاهد الفاضحة، التي لا يتبعها إلا بالفعل ذاته، لا يستطيع أن يغادر الحديقة، فهي إحدى المناطق التي يتجه إليها في يومه، يلتمس فيه الرزق كمكان مغلق، يواصل سيره بينما يوقن ''أن الناس زمان كانت عندها حيا وخشى لكن دلوقتي لأ''.

 

فيديو قد يعجبك: