إعلان

"مصيف اليوم الواحد".. متنفس مصريين أرهقهم "أكل العيش" و"كورونا" | تقرير مدفوع بالبيانات

02:09 م الثلاثاء 01 سبتمبر 2020

مصيف اليوم الواحد

تطبيق مصراوي

لرؤيــــه أصدق للأحــــداث

إعداد- محمد زكريا:

صورة الغلاف- حازم جودة:

كان خفوت حدة جائحة كورونا فرصة محمد مكي لمتنفس من ضغوطات زادت في الشهور الأخيرة، حزم الأبُ حقيبة واحدة، أعدت فيها الزوجة طعامًا بسيطًا، واتجهت الأسرة إلى شاطئ في العين السخنة، للقاء بالبحر انتظره هو وزوجته، ومن قبلهما ألحّ صغاره في طلبه، كان مصيف اليوم الواحد الحل الأمثل لظروفه.

مكي موظف حكومي، راتبه يكفي بالكاد متطلبات العيش المتزايدة، لا يملك الرجل الأربعيني الآن رفاهية الذهاب إلى مصيف لأيام، حتى وإن كان شعبيًا خدماته رخيصة، آخر مرة كانت قبل أكثر من 3 سنوات في مدينة مرسى مطروح، ومن بعدها لم يفعل ذلك.

تآكل راتب الموظف الحكومي في أعقاب تطبيق الحكومة إجراءات اقتصادية، كان على رأسها "التعويم" في نوفمبر 2016، الذي أفقد الجنيه نحو نصف قيمته، وخفض دعم بعض السلع والخدمات، حيث أعلن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في مؤشراته عن تأثر طاقة إنفاق عشرات الملايين من المواطنين المصريين، فتشير نتائج بحث الدخل والإنفاق والاستهلاك إلى احتلال بند الثقافة والترفيه المرتبة الأخيرة على سلم متوسط الإنفاق الكلي السنوي للأسرة المصرية، بمبلغ 1079 جنيهًا فقط.

في فبراير 2019، سافر مكي بأسرته إلى بورسعيد، قضى هناك يومًا كاملًا، جلس مع زوجته أمام البحر، واستمتع به أولاده، ثم عاد مع حلول الليل، "كان نفْسنا نقعد طبعًا أكتر من يوم، بس على قد لحافك مد رجليك، وأهي تنفيسة عن المدام والعيال، أحسن من مفيش" قالها الرجل بصوت خافت.

ذاك التراجع الذي حلّ بإنفاق أسرة مكي على الترفيه، خلال السنوات الأخيرة، يعكسه مؤشر السعادة العالمي لعام 2019، والصادر عن شبكة حلول التنمية المستدامة التابعة للأمم المتحدة، حيث احتلت مصر المرتبة 137 من بين 156 دولة شملها التقييم، متراجعة بنحو 15 مركزًا عما كانت عليه في العام 2018.

في أغسطس الحالي، أعاد مكي الكرّة، بعدما خفت حدة أزمة فيروس كورونا المستجد في مصر، وفك وأسرته الالتزام الجاد بالخوف والحجر المنزلي، لكن تلك المرة إلى ساحل خليج السويس في البحر الأحمر، رحلة ليوم واحد فقط إلى العين السخنة، أسعدته وجددت نشاطه، بينما كلفته وأسرته حوالي 1200 جنيه، هو مبلغ ليس قليلًا كما يقول، مقارنة براتبه الحكومي الذي بالكاد يوجه منه مئات الجنيهات للادخار.



في حوالي السادسة من صباح يوم جمعة، بميدان رمسيس في القاهرة، كان مصطفى محمود يقف أمام أتوبيس سياحي، يحمل ورقة بيضاء وقلمًا أزرق، يُعلم على أسماء الحضور من الحاجزين لرحلته، فيما ينظم عملية جلوسهم على المقاعد، قبل أن ينطلق "الباص" إلى العين السخنة، ويصل بالمصيفين إلى أحد شواطئها الخاصة، حيث يستمر إغلاق الشواطئ العامة لإشعار آخر بأمر الحكومة، ضمن إجراءاتها الاحترازية للحد من تفشي جائحة كورونا. بينما على بعد حوالي 3 أمتار من بحر هذا الشاطئ، قسم محمود الحاجزين لرحلته على شمسيات متلاصقة، وكان حَجز لكل ثمانية مقاعد شمسية واحدة.

قبل سنوات، جنب محمود شهادته الجامعية، بعدما تخرج في كلية دار العلوم، فيما اختار العمل بالسياحة الداخلية، لحسابه، لا لشركة. يعلن الشاب عن رحلاته على "فيسبوك"، قبل أن يلتقي بالحاجزين بأقرب محطة مترو أنفاق للحصول على مقابل الرحلة، وكانت الأخيرة إلى العين السخنة بـ250 جنيهًا للفرد، فيما تتراوح أسعار الأخريات بحسب الوجهة، "الساحل الشمالي 400 جنيه، بورتو السخنة 350 جنيه.." يعرض محمود أسعار رحلاته، ليكون على موعد كل أسبوع مع عشرات المصيفين ورحلة واحدة أو أكثر.

صورة 1

طوال 5 سنوات، لم يتوقف محمود عن نشاطه، قبل أن تُثقل الجائحة حياة البشر مطلع العام الحالي، ومعها يتعطل نشاط قطاعات حيوية مهمة، كانت السياحة في القلب منها، حيث بلغت خسائر مصر من الوفود السياحية، في ظل انتشار أزمة فيروس كورونا المستجد 26.3 مليار جنيهًا، بحسب مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء، ليقبع الشاب في المنزل مضطرًا حوالي 3 أشهر كاملة، لم يعد لديه فيها ما يدر عليه جنيهًا واحدًا، ولولا أنه غير متزوج لعانى حمل المسؤولية، قبل أن يعود ابن حي الهرم لعمله في تلك الأيام، يلتقط رزقه الذي لا يعرف له سبيلًا غير تنظيم رحلة ليوم واحد، بالتزامن مع عودة خجولة للسياحة الداخلية في مصر، وفق اشتراطات وضعتها الحكومة.

وجد عُمر جمال في رحلة ليوم واحد حلًّا أسلم، ابن حي عين شمس يعمل 6 أيام في الأسبوع، ولا يقدر على اقتناص إجازة في فترة ينتعش فيها عمله بعد ركود، كما أن مصيف اليوم الواحد أكثر أمانًا في نظره بوقت لم ينتهِ كورونا بعد، ورغم متابعته انخفاض أعداد الإصابات والوفيات في مصر، يستشهد بأن دولًا غربية بها موجة ثانية من انتشار المرض، لذا فمصيف اليوم الواحد الأنسب لعُمر: "منها أفك عن نفسي من قرف الشهور اللي فاتت، من غير ما يحصلي أي أزمات في الشغل، ومنها أقلل الوقت اللي هكون فيه بره البيت، وأقلل معدل الخطر اللي ممكن أتعرض له لو سافرت أسبوع وبتّ في أي مكان أنا مش ضامن هيطبق الاشتراطات الصحية ولّا لأ".



أقل من 500 جنيه تكلفها الموظف بمصنع الألبان، لأجل رحلته إلى العين السخنة، "بعكس لو سافرت كام يوم، هصرف ألفين تلاتة.. وأنا مش عشان انبسط كام يوم، أتعكنن باقي الشهر!" قالها جمال ساخرًا وضحك أصدقاؤه عاليًا.

تلك الضحكات تغيب عن محمود الشال، بينما يسمعها صاخبة في فيديوهات منتشرة على "فيسبوك"، تعود إلى مرتادي قرى خاصة ممتدة على الساحل الشمالي، بينما هو جالس داخل "كافتيريا" يستأجرها على شاطئ مدينة رأس البر، في انتظار مصيفين وزبائن.

منذ حوالي 9 سنوات، يدير الشال "كافتيريا" على أحد شواطئ رأس البر، فيما تعتبر رحلات اليوم الواحد مصدرًا لدخله بشكل أساسي؛ فالمدينة التي تُعرف بأنها مصيف "البسطاء"، بعد أن هجرها "الأثرياء" بدايات القرن الماضي، تشتهر بازدحام شواطئها بـ"اللي بييجي يوم إجازته يفكّ عن نفسه"، ولأجلهم يفرش صاحب الـ"كافتيريا" شمسياته على الرمال، يقدم مأكولاته ومشروباته بأسعار تتناسب مع حال الزوار.

صورة حية لأحد شواطئ رأس البر في يوليو 2018

كان هذا هو الحال قبل أن يأتي الصيف الحالي وفي يده ضيف ثقيل قاتل أحيانًا، قلب "كورونا" حياة شاطئ محافظة دمياط رأسًا على عقب، التهم رزق العاملين على رماله الصفراء الساخنة، سرق الدفء والملح من مرتاديه للتشمس والاستحمام في البحر.

أُغلقت الشواطئ، مُنع النزول إلى البحر، عُلق عمل الشال لأكثر من 3 أشهر، قبل أن يعود إليه ولو منقوصًا؛ مسموح للـ"كافتيريا" الآن بتشغيل 50% من طاقتها، بينما ممنوع عليه رصّ الشمسيات على الشاطئ، في الوقت الذي يفكر فيه بكيفية تدبير الإيجار كاملًا، "ده ظلم.. أنا بدفع 480 ألف جنيه في الموسم للكافتيريا والشماسي. القسط الأول بـ240 ألف جنيه، دفعت منه 150 ألف جنيه في يناير. النهارده مبعوتلي إخطارات وجوابات إنذار من المحافظة عشان أدفع باقي القسط الأول، والقسط التاني. سألت أنا وزمايلي المتضررين: منين وإزاي؟ دي الظروف صعبة والأزمة على العالم كله، قالولنا: ادفعوا واتظلموا.. بقى ده معقول يا عالم؟" يحكي الشال بصوت يسكنه الغضب.

يبدأ ابن مدينة عزبة البرج بمحافظة دمياط عمله في السادسة صباحًا، بينما يغلق "الكافتيريا" في الـ12 منتصف الليل، التزامًا بالإلزام الحكومي احترازًا من "كوفيد-19"، فيما لا يسير عمله على نحو جيد، شارحًا: "الشغل ماشي بنسبة 20% بس، يعني الحسنة اللي بتيجي بتروح للعمال، فكده فتحتها زي قفلتها، ما هو ممنوع نزول البحر، الناس هتيجي راس البر تعمل أيه؟".

ورغم اختلاس البعض الجلوس على الشاطئ والاستحمام في البحر، لا يرى في الأمر نجدة لإنعاش اقتصاده المتدهور، يأمل أن يعود لعمله كامل نشاطه كما كان الصيف الماضي، مستنكرًا إغلاق الشواطئ العامة في وقت يتابع فيه أخبار التجمعات في النوادي الخاصة والقرى السياحية، ويشهد تعايشًا مع "كورونا" في محيطه على كل المستويات، منهيًا حديثه: "إنت كده مطبق المنع على الشعبي بس.. يعني هما الغلابة ملهمش نصيب يتبسطوا؟".

وحتى يكتشف العالم لقاحًا لـ"كورونا"، لن تُضيِع لميس نصير فرصة الفسحة خارج القاهرة في تلك الأيام.

اعتادت الشابة السفر مع أهلها إلى الإسكندرية، فانتهزت فرصة خفوت حدة تفشي مرض "كوفيد-19" بمصر، وذهبت هي وأخواتها الثلاثة إلى هناك قبل شهر واحد، لم تنزل ابنة حي المعادي إلى البحر الأبيض المتوسط، لا تُفضل ذلك إن كان المصيف ليوم واحد، كما أن أغلب الشواطئ هناك لا تزال مُغلقة، البنت وضعت خطة لبلوغ الإخوة أقصى استمتاع من الرحلة، كلفتهم بنودها 700 جنيه، بينما أدخلت بساطتها سعادة كبيرة في قلوبهم، تعبر عنها بصوت فرح: "قعدنا على كافيه على البحر، بعدها رُحْنا اتغدينا في مطعم مش مُكلف، وعلى المغرب اتمشينا على الكورنيش.. وروّحنا".

قبل حوالي عامين، كانت أسرة نصير تقضي أيامًا في الإسكندرية، لكن ذلك لم يَعُد هينًا ولا واردًا الآن، تفسر لميس: "إيجار الشقة زاد النهارده 3 أضعاف"، لذا اتجهت الأسرة إلى خيار السفر ليوم واحد: "عملناها أكتر من مرة، وكانت أوفر بكتير.. افتكر منهم لما كنت أنا وبابا وماما وأخواتي الـ3، يومها اتبسطنا جًدا، وصرفنا بتاع 1200 جنيه بس؛ فولنا العربية بـ200 جنيه، وأكلنا سمك بـ300 جنيه.. ".

يملك والد لميس ورشة للألومونيوم، وتجد صاحبة الـ27 عامًا ميزة في سفر اليوم الواحد: "تغيير جو، متحسش فيه بزهق، وميكلفكش فلوس كتير، وتقدر تعمل خطة محددة لليوم بتاعك"، لكنه يحمل لها صعوبات بين طياته: "اليوم الواحد مفيهوش أريحية الكام يوم؛ إنت مُحدد بوقت، لو طولت في مكان ممكن تقلل وقت مكان تاني أو تلغيه.. وطبعًا مُلتزم بميعاد رجوع عشان متتأخرش".

4 سنوات مرت، على آخر مصيف قضت فيه أسرة عطيات محمود 4 أيام بالإسكندرية، لم يعد اقتصاد الأسرة المكونة من 9 أفراد يسمح لها بتكرار الأمر، "مش ملاحقين.. البيت أولى بكل قرش" تشرح الأم سبب الانقطاع التام عن السفر لأيام.

يملك زوج عطيات مقهى صغيرًا بمنطقة أرض اللواء بالجيزة، بينما يحمل على ظهره أعباء ثقيلة لا تخف، "7 بنات، عايزين نجهزهم ونجوزهم، فداخلين جمعية ورا جمعية، مخليين الراجل مش عارف يبص حواليه" والكلام للأم، لتلجأ الأخيرة إلى حيلة ترفه عن بناتها وترضي "جيب" زوجها، سافرت صاحبة الـ48 عامًا وبناتها العام الماضي إلى الإسكندرية ليوم واحد، مع جيرانها، ضمن رحلة نظمها مركز شباب أرض اللواء.

لكن تلك الحيلة لم تعد صالحة للعام الحالي، بعدما تفشت جائحة كورونا، ودخلت البلاد حالة من الإغلاق الجزئي، نال عمل زوج عطيات نصيبًا كاملًا منه، أُغلق مقهى الأب لـ3 شهور كما كل المقاهي، فيما لا يملك هو مصدرًا آخر للدخل، في وقت يلتزم فيه بسداد جمعيات وأقساط، ليضطر إلى "السلف" لسداد ما عليه من التزامات، لكن ليس وحده الذي اضطر إلى ذلك خلال أزمة "كورونا"، فبحسب دراسة أجراها الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، أُعلنت نتائجها في يونيو الماضي، فإن 50.3% من الأسر المصرية لجأت إلى الاستدانة لمواجهة نقص الدخل خلال تلك المرحلة، وفيها عانت 33.2% من الأسر المصرية من عدم كفاية الدخل للوفاء بالاحتياجات.

"مصروف البيت بعد ما كان 200 و300 جنيه في اليوم.. بقى 80 جنيه بس".. تغوص الأم في الأسباب المؤدية لاستبعاد الترفيه من يوميات الأسرة، "الموضوع كمان وصل للأكل والشرب.. بعد ما كنا بناكل لحمة أو فراخ 3 أو 4 مرات في الأسبوع، دلوقتي بناكلهم مرة واحدة وباقي الأيام أورديحي" تستكمل عطيات بصوت خجول.



رغم مضي الحكومة قدمًا في خطتها لإعادة الحياة إلى طبيعتها، وفتح الرجل لمقهاه من جديد حتى الـ12 منتصف الليل، لم يعد لعمل زوج عطيات نشاطه الذي كان قبل "كورونا"، ولا للأسرة المكونة من 9 أفراد براح العيش الذي تتمناه، تأمله وتبحث عنه، ولو بمصيف ليوم واحد في الإسكندرية، فيما لا تطاله.

فيديو قد يعجبك: