أهل المحبة (2)- حكاية السمّيع "إكس" (بروفايل)

12:01 م الثلاثاء 30 يونيو 2020

سميعة الشيخ مصطفى إسماعيل

كتبت-دعاء الفولي:

العام 1981، الذكرى الواحد والثلاثون لوفاة الشيخ محمد رفعت، يأتي المحبون لمسجد فاضل باشا بالقاهرة، وجوه لا تعرف بعضها، فقط قراءة الشيخ المُعجزة تنبعث من جهاز تسجيل، فتؤلف بينهم. يقف الابن الأكبر، يخبرهم بخجل أن "الشيخ إبراهيم الشعشاعي جاي يجاملني في أبويا وعايز يقرأ بعد إذنكم"، يُصاب الموجودون بالبُكم، تمر الدقائق ثقيلة، يقف أحدهم فجأة، يرفع صوته "يا حسين.. الشيخ رفعت مش أبوك لوحدك دا أبونا كلنا.. وسيدي البُغدادي كان يقولي محدش يسمع صوت تاني بعده"، ينظر الجمع للابن، وينظر حسين للشيخ إبراهيم فيجلس الأخير في صمت، ينطلق صوت الشيخ رفعت، وتنفرج أسارير السمّيعة.

إعلان

للسمّيعة دساتير؛ لا يُحاد عنها أبدًا، تعرفهم بسيماهم، إما يطوفون خلف شيوخهم المفضلين، أو يجمعون تراثهم، يصرخون فيهم إذ تُقال التلاوة، أو يبكون، يصمت بعضهم، أو ينقلب تمثالاً لعدة ساعات حتى ينتهي الشيخ، للسمّيعة مذاهب؛ منهم الدارس ومنهم من لا يقرأ أو يكتب، لكنهم إذ يتقابلون تذوب الفوارق، يُصبح السمع هو البطل، فالأذن الموسيقية موهبة، تلتقط الجيد وتلفظ القبيح، للسمّيعة نوادر؛ تدور بين أماكن وأزمنة عديدة، وشيوخ كُثر، تُصيب سامعها بالانبهار، لكنهم معذورين، فمن حضر القراء ليس كمن سمعهم، القراء أنفسهم تحمّلوا جنون السمّيعة، حتى يقول الشيخ مصطفى إسماعيل لأحد مُحبيه "يا أخي ربنا يخلصني منك ومن سماعك".

أينما ارتحل الشيخ مصطفى يتتبعه ذلك "السمّيع"، ما إن يعلم بتوجهه لمكان معين حتى يسبقه، أحيانًا يتماسك وأحيانًا يشتم الشيخ لفرط حلاوة ما يسمعه، وعندما ينهره الجالسون، يُغادر الصوان لدقائق، يُكلم نفسه "هو فيه كدة؟ حد يقولي عمل كدة إزاي"، يعود ليسمع بعض الآيات ويكرر الأمر، أحبّ أهل الصوان وجوده وسطهم، فالشيخ مصطفى نفسه كان يدخل في تلك الحالة حينما يسمع الشيخ رفعت، يقف بين السمّيعة فينادي "يا ساتر يارب.. رجّع الحتة دي يا حسين"، فيما لم يجرؤ أبدًا على القراءة في "حضرة" صوت رفعت.

في قلب "السمّيع" لا يتوقف الافتتان عند الصوت، يُمسي وكأنه ظِل القارئ، يتمنّى لو حضر بعض القُدامى، يقول "لو كنت لحقت الشيخ رفعت مثلاً كنت بقيت عُكازه، ولا كنت فلحت في تعليم ولا شغل"، تنشأ صداقة بينه وقراءه المفضلين، تجمعهم جلسات، بعضها لتوثيق حياة القارئ وأخرى للحكي، تلك الأوقات ستصبح ذكريات يرويها فيما بعد، أو يستعيدها عقله فيبكي، كما حدث يوم وفاة الشيخ مصطفى إسماعيل عام 1978، حينما شعر ذلك السمّيع أن والده تُوفي من جديد.

من قال إن "السمّيع" لديه صك يُمكّنه من الاستمتاع بالقراءة؟، لا شروط في ذلك العالم سوى الحُب، و"اللي يحب يبان في عينيه" كما تندر أحد المُحبين، راويا عن السمّيع القبطي، الذي لم يًفوت جلسة سماع للشيخ رفعت، دفعته حلاوة القراءة للقفز أحيانًا من فرط إعجابه، كان دارسًا للمقامات والنغم، أدرك أن بعض الأصوات طفرة، فلا يجب تفويت فرصة الاستماع لها، بغض النظر عن أي اعتبارات.

"السمّيع" زاده التراث، إن انفلت منه تسجيل يُفتش عنه كالملسوع، لا يهدأ حتى يحصل عليه، يُقابل "نصّابين" يدّعون استحواذهم على شرائط نادرة لكنه يحفظها جميعا، يعرف صمت الشيوخ قبل القراءة، والهمهمة بين الآيات، يخيب أمله قبل أن يجد شيئا نادرا، يبحث لسنوات، لكنه إذ يجد مُبتغاه يدفع مقابله الكثير من الأموال، أو ما هو أثمن، فقد يُعطي نسخة من تسجيل نادر لديه.

تدور رُحى البحث و"السمّيع" لا يكتفي، تحوي مكتبته عشرين ألف تسجيلاً، فيعتريه الهم، يُفكر في من سيحفظ التراث من بعده، يُعلّم أجيالاً جديدة أصول السمع والتجميع والحفظ، ينقل لهم فنون "الموهبة"، يعطيهم بعض التسجيلات، يوصيهم بالحفاظ عليها، يقص عليهم سيرة الأوائل، من تركوا تراثًا ضخمًا، فأهمله أولادهم وهزمه الزمن، أو فرّطوا فيه بالمال، يخبرهم أن من يبيع التسجيلات يتحول من هاوي لتاجر، والتاجر لا يُحب بضاعته بالضرورة، أما السمّيع فيقوده الولع، يلتصق به حتى الموت.

*القصص الواردة في ذلك البروفايل حقيقية، رواها سمّيعة ومُحبون ومهتمون بتوثيق التراث في سنوات مختلفة

أقرأ أيضًا:

"وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا".. هل مسّكَ خشوع "المنشاوي"؟ (بروفايل)

إعلان