إعلان

رحلة صبي غرق في حب تاريخ مصر.. مصراوي يحاور مترجم درة الأدب الجنائزي

07:41 م السبت 04 أبريل 2020

المترجم شريف الصيفي

تطبيق مصراوي

لرؤيــــه أصدق للأحــــداث

حوار-رنا الجميعي:

عام 1975 جلس صبي صغير لا يتجاوز عمره الخامسة عشر، أمام شاشة السينما يُشاهد فيلم "المومياء"، لم يكن يعلم حينها شريف الصيفي أن قصة الفيلم التي تحث على العودة للهوية المصرية، ستكون هي مسلكه فيالحياة كمُترجم للغة المصرية القديمة، وأن مسألة البعث التي يشير إليها في الفيلم بتلك الدعوة "يا من تذهب سوف تعود، يا من تنام سوف تصحو، يا من تمضي سوف تُبعث"، ستكون شاغله الأول حينما يبدأ مشروعه بترجمة النصوص الجنائزية المعروفة بإسم "كتاب الموتى"، أو"الخروج للنهار".

في فبراير الماضي صدرت نسخة جديدة لكتاب "الخروج للنهار"، عن مكتبة تنمية، في إطار مشروع ترجمة التراث الجنائزي المصري القديم، وهي النسخة الرابعة المُنقّحة، حيث نشر الكتاب لأول مرة عام 2003 عن المركز القومي للترجمة.

1-المترجم شريف الصيفي حين كان طالبا في جامعة ماربورج الألمانية

حينما شاهد الصيفي فيلم المومياء شيئٌ ما استقر في قلبه؛ مَيْل تجاه تاريخ مصر القديم، اتضح أكثر لما لمعت عيناه خلال تسكعه في سورالأزبكية ذات يوم ، يتذكر صوت البائع قائلًا "أي كتاب بشلن": لم يشدني سوى كتاب واحد اسمه فجر الضمير للكاتب هنري بريستيد، الذييناقش أسبقية المصري القديم في وضع القيم والمبادئ التي تحكمه، وقتها بدأ الصيفي يهضم معنى "الهوية المصرية"، الذي ظل كامنًا بداخله حتى انتقاله للعيش في ألمانيا، حيث عمل داخل إحدى دور النشر. لكن حتى ذلك الوقت لم يكن الصيفي قد اقترب من ذلك العالم بحق"صحيح كنت أتابع ما يحدث في مصر، لكن بلا اندماج"، حتى استيقظ ذات يوم على قسوة غير مبررة بحادث اغتيال المفكر المصري، فرجفودة، في يونيو 1992 على يد الجماعة الإسلامية، وقتها بدأ يعود للاهتمام بتفاصيل الشأن المصري.

آمن الصيفي أنه ربما يكمن الحل في العودة إلى الهوية المصرية "التي تعيد توحيد المجتمع، وتقضي على النعرات الطائفية"، ظل حالما بمشهد الفلاح المصري الواعي الذي يجلس بالساعات لشيخ الجامع، لكنه بالنهاية يعطي صوته لحزب الوفد.

منذ ذلك الوقت خطا الصيفي عدة خُطوات نحو فهم الهوية المصرية، كان أولها دراسة كل ما يتعلق بمصر في نصوص التوراة، وفي لحظةحماس طفولية كما يصفها "قررت ترك عملي، وبيع محتويات شقتي"، وانتظم الصيفي كطالب في جامعة ماربورج لدراسة علم المصرياتواللغات السامية واليونانية القديمة واللاتينية، حينها كان في عمر السادسة والثلاثين.

2-كتاب الخروج للنهار النسخة الجديدة من مكتبة تنمية

لم ينس الصيفي أول لقاء حدث بينه وبين رئيسة قسم المصريات، البروفيسور "أورسولا فون هوفن"، سألته عن سبب دراسته للمصريات فيهذا السن خاصة مع ضيق سوق العمل لعلماء المصريات، فأجابها قائلًا "لم أرغب في الدراسة لأكون عالم مصريات، فقط أريد أن أكونمصريًا، ليس بالميلاد بل بالوعي بتاريخ هذه الأمة، وأن أكون يومًا قادرًا على نقل أمين للتراث المصري بالعربية".

كان الصيفي على وعي بأنه لا توجد ترجمات مصرية مباشرة، بل عبر لغات أوروبية وسيطة، وهذا ما اكتشفه منذ أن بدأ في دراسة أسفارالتوراة، وهي الدافع الأول الذي جعله يتعلم اللغة المصرية القديمة، وبعدما أتمّ دراستها، انتقل لجامعة جونتجن لدراسة اللغة القبطية، غير أنحادث وفاة طفله الأول جعلته يتوقف عن الدراسة "وبعد فترة استعدت حماسي لكني تفرّغت للترجمة".

3

الدراسة جعلت الصيفي قريبًا من الهوية المصرية، غارقًا حتى رأسه في تاريخ مصر الفرعوني، وفي تلك الأثناء اقترح عليه الباحث عبدالعزيز جمال الدين، أن يُترجم كتاب الموتى، لينشرها في مجلة "مصرية" التي يشرف عليها، بالفعل قام الصيفي بترجمة ثلاثة عشر فصلًامن النصوص الجنائزية، والتي نُشرت بعد ذلك أيضًا في جريدة أخبار الأدب أسبوعيًا، لاقت الترجمة نجاح وصلت أصداؤه إلى المركزالقومي للترجمة، الذي طلب من الصيفي ترجمة النصوص كاملًا، وكانت الطبعة الأولى التي رأت النور عام 2003.

ما هي تلك النصوص الجنائزية التي تملأ العالم ضجيجًا في كل مرة يتم نشر ترجمة جديدة لها؟ تلك النصوص تحتوى على صلواتوابتهالات، كُتبت على الجلود والأكفان والتوابيت وحوائط المقابر وأوراق البردي، وقد أطلق عليها في البداية "إنجيل المصريين"، ويعتبر الاسمالشائع لها هو "كتاب الموتى"، لكن الصيفي قرر الالتزام بالاسم الأصلي وهو "الخروج للنهار"، وقد نُشرت تلك النصوص للمرة الأولى فيكتاب "وصف مصر"، حيث قام علماء الحملة الفرنسية بنسخها، وبعدما فكّ العالم الفرنسي شمبليون رموز اللغة المصرية كتب عن البرديات الموجودة بمتحف تورين بإيطاليا، لكن أول ترجمة مطبوعة للكتاب كانت في عام 1872 على يد إميل بروجش للغة الألمانية، ومن بعدها توالتالاجتهادات التي لم تنتهِ حتى اليوم.

استغرق الصيفي في دراسة تلك النصوص وقتًا طويلًا، فقد ظل مشروع الترجمة قائمًا لمدة عامين، قرأ فيهم عشرين بردية تتحدث عن العلاقةبالعالم الآخر، وقد كان أول ظهور لها في مقابر أمراء مصر الوسطى بأسيوط من عصر الأسرة الثانية عشر، وعُرفت بإسم متون التوابيت،ولكن اعتمد الصيفي في ترجمته بالأساس على بردية من عصر الأسر 26، لما يمتاز به ذلك العصر من محاولة لإحياء التراث المصري القديم"حيث قاموا بإعادة نسخ جميع فصول كتاب الخروج للنهار"، ويرى الصيفي أن تلك البردية بالتحديد، وتسمى بردية كاهن الإله منتو، تعتبرمثال صارخ لما عانته مصر من التخريب، فقد كانت البردية موزعة على أكثر من متحف.

4-كتاب الخروج للنهار طبعة مكتبة الأسرة

خلال عامي الترجمة استمتع الصيفي بالتجربة، أدمن متعة الإبحار داخل البرديات "حتى أنني كنت استحضر المقاطع العصية علىالترجمة في أحلامي"، ورغم أن تلك النصوص تتحدث حول الموت، لكنها لم تكن تبعث على الكآبة، بل على الحكمة، فمن خلال تلك النصوصالجنائزية استوعب الصيفي الدرس المصري كما يصفه "بأن الموت مُكمّل للحياة"، فمشروع أي إنسان لا يكتمل إلا بالرحيل "وسوف يساعدناذلك على أن نحيا نمط حياة متوازن، غير تملكي وغير أناني".

ظهرت ثلاث طبعات لكتاب "الخروج للنهار" من المركز القومي للترجمة ومكتبة الأسرة، ثم عاد الصيفي مُجددًا بالنسخة الجديدة مع مكتبةتنمية، لكن شغفه مع اللغة المصرية القديمة لم ينتهِ، حيث سينشر قريبًا ترجماته لعدد من القصص الفرعونية منها قصة البحار الغريق وقصة"سنوحي" وأغنيات الحب ومزامير إخناتون وشكاوى الفلاح الفصيح وقصة الملاح الغريق، كل ذلك في إطار مشروعه الطموح عن الأدبالجنائزي القديم مع مكتبة تنمية.

لن يقف الصيفي عند ذلك فحسب، بل سيقوم بعدها بالتفرغ لكتابه عن تاريخ اللغة المصرية "وما طرأ عليها من تغيرات سواء على مستوىالأصوات أو التراكيب النحوية وطريقة الكتابة"، كذلك علاقتها باللغات التي احتكت بها مثل الكنعانية واليونانية والآرامية والعربية، وأثر كلذلك على لغة اليوم.

5-أحد مجلدات مشروع متاحف في الدلتا

لا حدود لشغف الصيفي بالهوية والتاريخ المصري، فبجانب كونه مُترجم؛ فقد أسس برفقة عدد مع علماء المصريات مشروع يحمل اسم"متاحف في الدلتا"، الذي يهدف إلى البحث عن مستوى التطور الحضاري للدلتا، ومقارنته بالموجود في الصعيد، وعبر المشروع يتم إلقاءالضوء على متاحف الدلتا، ليس ذلك فحسب، بل إن طموح المشروع يرمي لأبعد من ذلك حيث يحاول وضع الدلتا على الخريطة السياحية،ومن ثم ضخ الاستثمارات فيها، وتحسين مستوى معيشة أهل المنطقة "وكانت البداية مع متحف الشرقية في تل بسطة"، وحتى الآن أصدرالمشروع مجلدين عن آثار الدلتا، باللغتين الإنجليزية، والعربية التي يترجم إليها الصيفي.عبر سنوات تمكّن الصيفي من أن يكون ناقلًا أمينًاللتراث المصري باللغة العربية، وها هي خطواته تتسع أكثر فأكثر، مُحاولًا أن يسد الفجوة داخل المكتبة العربية، وفيما يُفكّر في مشروعه الكبيريتردد داخل عقله مُطمئنًا إياه صوت المصري القديم قائلًا في أحد نصوصه: "لم أظلم إنسانًا.. لم أغضب الرب.. لم أبدد ميراث اليتيم.. لمأفعل شيئًا نهى الرب عنه.. لم أقتل.. ولم أكذب".

فيديو قد يعجبك: