بجذوع الشجر.. هدى وزجها يقاومان اللجوء والحنين إلى العراق

04:32 م الأحد 16 فبراير 2020

هدى عدنان الحافظ لاجئة عراقية في مصر ترسم على جذوع

تبت- إشراق أحمد:

مع كل لمسة بفرشاة الألوان، يدب الأمل من جديد في نفس هدى الحافظ، تستعيد الحلم الذي غادرت العراق من أجله، وقدمت إلى مصر "جيت أكمل دراستي في الفنون لكن وقت ما طلعت دخل داعش الموصل"، فتحطمت آمال الشابة العراقية من الخوف على أهلها. 6 سنوات من اللجوء تعيشها هدى، حُرمت فيها من رؤية أسرتها، إلا أنها تنفست فيها مرتين، الأولى حينما التقت بزوجها فكسرت عزلتها، والثانية، وقت أن وجدت في الرسم على جذوع الشجر مشروعًا تسترد فيه شيئًا من حياة تبدلت بفعل الحرب.

إعلان

كانت هدى حديثة التخرج في كلية الفنون بجامعة الموصل، لا تفكر بطريق آخر غير الرسم لتسلكه، في الوقت الذي كان العراق على حافة السقوط في شباك تنظيم داعش بعد السيطرة على مدينة الفلوجة –غرب العراق- مطلع عام 2014، لهذا قررت السفر وقصدت مصر لدراسة الماجستير على أن تعود لأسرتها، فلم تكن تعلم أنه رحيل بلا عودة؛ في شهر يونيو من العام ذاته سقطت الموصل -بالشمال العراقي- وفقدت الشابة الاتصال بعائلتها لنحو 6 أشهر "مكنتش عارفة عنهم شيء. كانت فترة صعبة في حياتي. نفسيتي ادمرت معرفتش أكمل دراستي ولا أرجع لبلدي".

استقرت هدى في القاهرة، طلبت اللجوء مثل 249.709 ألف لاجئًا ومطالب للجوء في مصر وفق آخر إحصاء لمفوضية الأمم المتحدة عام 2019. واجهت الشابة الحياة وحدها بعدما فشلت في السفر إلى تركيا حيث يقيم أحد أشقائها، فسكنت لدى أقارب لها، ولم يكن سوى الرسم ما يهون عليها الغربة، التي اعتصرت قلبها بعدما توفى أبيها أواخر عام 2016 "عرفت أنه مات بالصدفة عن طريق ابن عمي من الفيسوك بوك فانهرت"، لكن شاء القدر ألا تُترك ابنة العراق وحدها طويلاً، جاءتها الرفقة دون حساب.

في ذلك الوقت كان شابًا عراقيًا يدعى علي زهير، يمضي عامه الثاني هو الآخر في مصر، بعدما فر من القتل في بغداد، لقراره ترك الخدمة في الجيش العراقي "اشتريت عمري وجيت هنا أنا ووالدي ووالدتي وأخواتي" يقول الشاب، الذي زادت أسرته فردًا جديدًا، بعدما جمعه الزواج بهدى قبل ثلاثة أعوام.

لم يستغرق زهير التفكير طويلاً "خلال أقل من شهر بعد ما شوفتها صدفة عند محل خضار. اتقدمت لها وطلبت منها الزواج". كانت فرحة مكسورة؛ هدى الابنة الوحيدة بين 3 أشقاء تمضي حياتها الجديدة في شتات عن أهلها "أمي جت حوالي أسبوع زوجتني ورحلت"، ما كان هناك سبيل آخر، ففي عنق والدة الشاب ابن صغير لا يتجاوز 14 عامًا عليها أن ترعاه لاستكمال دراسته، لكن زهير كان العوض الجميل لهدى، وظل على عهده لها منذ ارتباطهما "راح نكون سند لبعض وهتكوني أنت وبس" .

قبل نحو عامين، خطر ببال هدى فكرة "أعمل مشروع فني.. ارسم على جذوع الخشب وأعرضها للناس". ظروف المعيشة كلاجيء ليست هينة كما تقول، حاولت الشابة العمل كمدرسة لكن لم تجد الفرصة، فلجأت إلى هوايتها، خاصة وأن الفراغ كاد يفتك بها "كنت بغيب عنها بالساعات بشتغل من 10 الصبح وارجع لها 10 بليل" يقول زهير، بينما ينظر لزوجته المنشغلة بإتمام إحدى الرسوم.

ساند الزوج هدى لممارسة ما تحب، أخذ يصحبها لشراء قطع الأخشاب، ويجلب لها ما تشاء بل ويصحبها في المعارض التي باتت تحضرها بعد فترة قليلة من بدء إعلان موهبتها ومشروعها، كان آخرها معرض هيئة إنقاذ الطفولة لمنتجات اللاجئين الذين يدعمون مشاريعهم، وأقيم في الجامعة الأمريكية، الخميس الماضي.

جذبت هدى الأنظار في الجامعة الأمريكية، الجميع يبيع منتجات جاهزة، فيما هي تصنعها مباشرة، فقط وضعت أمامها نماذج رسمتها سلفًا للعرض، وأحجام مختلفة من جذوع الشجر الخالية للرسم عليها بما يملأ الطاولة أمامها من ألوان.

في نصف الساعة انهت هدى رسم طلبته فتاة لتهديه إلى صديقتها في عيد ميلادها المخطط له بعد ساعة، وضعت الرسامة العراقية لمستها ونفذت الفكرة التي أرادتها المشترية، لترتسم ابتسامة على وجه الشابة المصرية لإنجاز هدية مصنوعة لها في الحال.

تعشق هدى الرسم، تمنحه شيئًا من روحها، حتى أنه لا يغادر تفاصيل حياتها، فأطلقت على طفلتها ذات العامين "هيلين"، نسبة إلى اسم فراشة نادرة طالمًا هوت رسمها ووضعتها رمزًا لمشروعها المسمى بـ "جاليري فراشة"، أما الرسوم فتجمع فيها حنينها وما أرادته من حياة سالمة، فتفيض عليها بالتعبير عن المحبة ودفء الأسرة، بكلمات تخطها بنفسها أو تقتبسها مما تحب أن تقرأ، لهذا فضلت أن تكون محفوظة في جذوع الأشجار وليس الورق المعرض للتلف سريعًا.

في المعارض لا يغادر زهير زوجته، يتفرغ من عمله ويرافقها، فتتولى هدى الرسم، فيما يراعي هو صغيرتهما من ناحية، ويعينها في تغليف الهدايا أو الرد على أسئلة المترددين عن السعر أو عن إن كان هناك صفحة خاصة بمنتجاتها على مواقع التواصل الاجتماعي. رأى زهير انعكاس الرسم على هدى في تغيير حالتها النفسية، فلا يثنيه شيء عن قراره بمرافقتها كلما جاءت فرصة لعرض أعمالها "اسيب الدنيا كلها واجي معاها.. هي نجاحها من نجاحي".

تفتحت عينا هدى وزهير على النزاع والحرب في العراق، لم يهنئا "معرفناش فرح كتير في الحياة لكن مبنقولش الحياة فاتتنا" كما يقول الزوج. يوقن الزوجان في مقاومة الظروف، فتجد هدى في مواصلة الرسم سبيل "سد الفراغ الموجود بداخلي أني مكملتش الماجستير"، فيما يحلم زهير معها بإقامتها معرض خاص وامتلاك مكتبة يومًا ما، وأن تحظى ابنتهما بحياة يسيرة، دافئة حال رسوم والدتها ومستقرة كجذوع الأشجار.

إعلان