إعلان

الشاي وحكاياته.. جولة في "مزاج" المصريين

10:11 م الثلاثاء 10 ديسمبر 2019

كتب - محمد مهدي ومحمد زكريا:

تصوير - محمد حسام الدين وحازم جودة وكريم أحمد:

من بين جميع المشروبات، يحتل "الشاي" مكانة خاصة لدى المصريين، بات مصاحبًا لـ "مزاج" الناس في القاهرة والمحافظات المختلفة منذ عقود طويلة، فأصبحت مصر أكبر دولة مستهلكة له في قارة إفريقيا، وفق أحمد شيخة عضو شعبة المستوردين بغرفة القاهرة التجارية، لذا حاول مصراوي البحث عن السر وراء تعلق الناس بالشاي تحديدًا، لماذا صار المشروب الأساسي في المقاهي؟ وأول الحضور على الموائد، وأحد الحلول في الظروف المعيشية الصعبة.

المشروب الشعبي في "القهاوي"

حين يطلّ الحاج علاء، على زبائنه في المقهى البسيط بأحد الشوارع الرئيسية في حلوان، يجد العدد الأكبر من الطلبات هي أكواب الشاي "بعتبر الشاي من المشاريب الشعبية، وصعب حد يهوب ناحية الأسعار" بالكاد يحصل الرجل على ثمن الشاي والسكر دون مكسب "لأن الكوباية بـ 3 جنيه، وبحافظ على السعر دا مهما حصل حتى لو هأخسر مرة" هو الطلب الرئيسي عند الجميع في حالة زيادة الأسعار أو غيابه ستصبح "القهوة" خاوية "بنعوض في الكوكتيلات والمشروبات التانية".

للشاي مكانة خاصة لدى زبائن المقهى "أول حاجة يطلبها الزبون حتى لو هيطلب حاجة بعدها" يُطلب من الجميع مع الأكل "سواء واحد جاي الصبح يفطر أو حد عايز يتغدى على القهوة" وأيضًا لدى عاملين البناء والبسطاء ممن يرغبون في الاستراحة والتقاط أنفاسهم على كراسي المكان "وطبعًا أغلب الصعايدة اللي عايشين في القاهرة كييفة شاي، عِد على قد ما تقدر كوبيات" وهناك زبائن تأتي لانتظار قضاء مصلحة أو أحد الأصدقاء "ويبقى مش عارف يطلب إيه فيقولك شاي".

للشاي استخدامات صحية شائعة لدى زبائن القهوة "يعني فيه واحد يقولي هاتلي شاي تقيل لأني مصدع" وهناك من يعانون من نزلات البرد "أول حاجة الشاي بلمون يتحط قدامهم" وفي فصل الشتاء هو الطَلب الأساسي "عشان الناس تتدفى في الأول ثم يشوفوا هيشربوا إيه تاني" ولكل زبون نوع مُخصص "فيه اللي بيشربه كشري، ودا أكتر الأنواع اللي بتطلب، وفيه بفتلة، وعندك بالنعناع، والزردة، وناس بتحب تشربه بنكهات مختلفة".

يحافظ الحاج علاء دائما على مخزون جيد من الشاي في جعبته "دلوقتي التعبئة بقيت كويسة فبقيت بجيب بالأسبوع، لكن الأول كنت بضطر أجيب يوم بيومه" يشتري أسبوعيًا 10كيلو شاي "ولو خلصت في نص الأسبوع يزود" فيما يلاحظ أن "أغلب اللي بيحبوا الشاي هما الجيل القديم" كبار السن لكن الشباب الصغار يميلون إلى المشروبات الأخرى خاصة الغازية "تلاقي الراجل الكبير قاعد مع كوباية الشاي وصوت أم كلثوم بليل سارح مع نفسه ومبسوط".

"الميكروباص ميمشيش من غير كوباية الشاي"

أمام محطة مترو الحلمية بمحافظة القاهرة، كان محمد مسعد واقفا أمام سيارته، ينادي على الخارجين للتو من مترو الأنفاق، بعد أن جاء دوره في "الموقف" لنقل الزبائن، الرجل يعمل بخط "حلمية- مطرية" منذ 10 سنوات، لكن "مفيش مرة اطلع فيها من الموقف من غير كوباية الشاي".

عادة يتبعها مسعد مع كل نقلة، فما أن تمتلئ كراسي السيارة عن آخرها، حتى يلتقط كوبه الزجاجي الفارغ، والموضوع أساسيا بجانب كرسي القيادة، لينادي على شاب يقف على "نصبة شاي"، اتخذ من مقدمة "الموقف" مكانا للرزق، فيما لا يحتاج السائق غير نطق اسم البائع فقط، ليحضر الأخير إليه مسرعا، يستلم منه الكوب الفارغ، ويغيب ثواني، قبل أن يعود حاملا الكوب، لكن مملوءً تلك المرة بحبر أحمر داكن يفوح منه الدخان، ليرتشف مسعد قليلا "وأقول يا سلام" هي لزمة في لسانه، يعقبها صعوده أمام مقود السيارة، بادئًا رحلته.

الشاي بالنسبة لمسعد، ليس مشروبا عاديا، يقول إنه يستطيع التخلي عن وجبة طعام، لكن لا يستقيم الأمر مع غياب "السيجارة وشوية الشاي"، هما أكثر ما يجعل يومه الحار رطبا، فالسائق يعمل لحوالي 12 ساعة يوميا، ولا يحصل أمامهم في النهاية على ما يعتقد أنه يستحق، تغطي أجرته مصاريف يومه وأولاده الأربعة- حسب كلامه- بالكاد، كما تعينه على المناهدة مع الزبائن، والأخيرة يحاول تجنبها رغم صعوبة الأمر كما يحكي، فلا يكون منه إلا أن يستلم "الأجرة"، يضبط سماعة "الميكروباص" على موسيقى صاخبة، يدخن "سيجارة الكليوبترا"، مع رشفات الشاي الساخن.

تلك العادة، التي يتبعها مسعد مع كل نقلة للزبائن، يصحبها انتقادات منهم في كثير من الأحيان، "تلاقي الزبون من دول يقولك يعني حبّكت الشاي دلوقتي ما كنت شربته والعربية بتحمل.. يسمعني أطلب الشاي يفتكر أن هو متأخر.. طيب أنا مالي؟"، لم يغير السائق من عادته في أي مرة، مهما كلفه ذلك "وجع دماغ.. ميقدرش عليه غير كوباية شاي".

"ضيافة" الصعيد

يشتهر الشاي كأفضل مشروب يُستخدم في "الضيافة" حينما يصل إلى البيوت المصرية ضيوف من الأسرة أو الجيران أو الأصدقاء، لكن الأمر له أبعاد أكبر في وجه قِبلي، إذ يشتهر أبناء الصعيد عشقهم لشُرب الشاي "ولازم أي حد يعدي علينا قدام البيت حتى، يشرب شاي حتى لو كان شارب قبلها بدقايق" يقولها طه الرقيق، أحد أبناء محافظة أسوان، مؤكدًا أن الأمر لديهم مقدسا لا نقاش فيه "عشان كدا هتلاجي الناس عندينا عارفة العادة دي وبيشربوا على طول".

الشاي لا يُقدم للضيوف المارة بالمنازل فقط، لكنه المشروب الرسمي في كافة المناسبات بالصعيد "في الموالد لازم تلاقي حد بيناولك كوباية شاي، واحدة في التانية" في احتفالات المولد النبوي الشريف تخرج صواني ممتلئة عن أخرها بأكواب صغيرة من الشاي تمر على الجميع ولابد من العودة بالأكواب فارغة "في الليالي والأفراح وحتى العزاء الشاي واجب لابد منه" يشربونه ثقيلا "ومعالق سكر كتيرة عشان تظبط الدماغ، مبنعرفش السكر الخفيف بتاعكم دا ملوش طعم" يقولها ضاحكًا.

يختلف الشاي من محافظة إلى أخرى، لكل بلد شاي بنكهة خاصة وطريقة مغايرة في إعداده "عندينا الشاي المشهور هو المغلي والكشري" يُقدم في أكواب عادية وآخرى صغيرة الحجم "ودا جزء مهم في يومنا، يعني لازم كل كام ساعة "كوباية شاي حلوة، ولا بعد كل أكلة نحبس بالشاي عشان نعدل الدماغ" يعتقد طه أن أهالي الصعيد أكثر الناس استهلاكا للشاي لأنه منذ طفولته يجده دائمًا على الموائد وفي الأيادي كجزء أصيل من حياتهم اليومية.

"الشاي لغة السياسة"

لم يترك الشاي إلا مجال واقتحمه، حتى إنه سلك طريق السياسة وخطب الرؤساء، فكانت سيرته حاضرة في خطبة شهيرة للرئيس الراحل جمال عبد الناصر، عندما وقف يرد على تهديدات أمريكية بقطع المعونة عن مصر بسبب عدم رضاها عن السياسات المصرية آنذاك، ليقول ناصر للمصريين بالحرف الواحد: "اللي سلوكنا مش عاجبه يشرب من البحر، واللي ميكفهوش البحر الأبيض، نديله البحر الأحمر يشربه كمان.. إذا كنا النهاردة بنشرب شاي 7 أيام، نشرب 5 أيام، لغاية ما نبني بلدنا".

كان الشاي حاضرا أيضا على مائدة الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك، إذا اعتاد المخلوع بعد ثورة شعبية في العام 2011 على الاستعانة بالشاي للترويج لسياساته، فحملت الصحف المصرية خلال أعوام حكمه الثلاثين أخبار استقبال مواطنين له في منازلهم الريفية، فيما كان الثابت في كل تلك الزيارات هو ضيافة صاحب البيت لمبارك بـ"كوباية شاي".

"الشاي مشروع الغلابة وفاكهتهم"

بـ"5 جنيهات"، يبيع محمد صابر الشاي على "نصبة"، إناء ضخم من الألومنيوم ولهب بدائي، وعدد من الأكواب الزجاجية رخيصة الثمن، هو كل ما يملك الشاب في ركن قصي بحي عين شمس في القاهرة.

لم يكمل صابر تعليمه، عزف عن المدرسة الإعدادية بسبب ظروفه الاقتصادية، كان لزاما على الطفل أن يساعد والده في تلبية مصروفات الأسرة، ولم يجد أفضل ولا أقل احتياجا لرأس مال من مشروع بيع الشاي.

يشتري صابر علب الشاي وأكياس السكر يوما بيوم، ويبيع الكوب الواحد بجنيهين ونصف، لكن لا يعتبر الشاي مصدر لرزقه فقط، لكن أيضا مشروبا يسعد كما زبائنهه، صابر يشرب ما لا يقل عن 7 أكواب يوميا "أهو طول ما أنا واقف، اتسلى بسيجارة وكوباية شاي.. دي فاكهة الغلابة اللي زيينا".

فيديو قد يعجبك: