من ورشة بالعمرانية إلى أوروبا.. جولة مع "حذاء الباليه" (قصة مصورة)

06:36 م الخميس 31 يناير 2019

كتبت- شروق غنيم:

تصوير- محمد حسام الدين:

لا يزال يتذكر محمود صالح لَمعان أول حذاء باليه صنعه بنفسه، من جلد أخضر اللون، لم تكن حياكتها مُتقنة الصنع لكنه أحّبها، ظل محتفظًا بها لفترة طويلة في حياته حتى ضاعت، لكنه يحفظ تفاصيلها في عقله، إذ أنها كانت "فَتحة" خير عليه، بعدها بات معروفًا في المعهد العالي للباليه والمراكز التدريبية طيلة أربعين عامًا "اللي عاوز يخلع ضرسه يروح لدكتور سِنان، واللي عاوز جزمة باليه يروح لعّم محمود" يقولها صاحب الـ67 عامًا لمصراوي.

كان عهد صالح بالأحذية عن طريق والده، في الأربعينيات صّنّع أحذية للكرة، المصارعة والملاكمة، ظل هكذا حتى حّلت النكسة عام 1967. تدهورت أحوال ورشة الأب، حتى تعرّف على مهندس مصري قادم من إيطاليا مهتم بالفنون "حال أبويا صعب عليه، كنا 6 عيال وعملية الشغل تعبانة، فعرض عليا وظيفة في معهد الباليه".

تلقّف خبير روسي -كان مُشرِفًا على مصنع أحذية الباليه بالمعهد- الأب، وجده مُتمكنًا من صناعة الأحذية، فاتفق معه على التخصص في أحذية بالباليه. لم يكن ذلك النوع من الرقص منتشرًا في مصر، لكن "صالح" أصبح رُكنًا أساسيًا في المصنع، اصطحب ابنه محمود للعمل معه "بس كان ليا دور معين، مكنتش بصنّع جزمة كاملة".

ظل دور محمود في المصنع محدودًا، حتى نصحه أحد أصدقائه بضرورة بدء مشروع خاص "كان دايمًا شايفني مكتئب، كنت باخد مرتب قليل ومش مكفيني، فاقترح عليا أصنّع جزم وألف بيها على المسارح".

من هنا كانت انطلاقة محمود، عام 1980 جرّب حظه وصنع أول حذاء باليه "بس كان على قده مش حلو قوي"، طرق باب مقر فرقة رضا "لكن الساعي رفض يدخلني"، تلبسته حالة اليأس، طاف في شوارع وسط البلد حتى تعثرت قدماه بمقر الفرقة القومية للفنون الشعبية "الساعي كان هيمشيني برضو لولا مدير الفرقة محمد خليل وقتها".

رحّب به في المكان، رأى الحذاء "لكن قالي فرقة فنون شعبية، تعرف تعمل الجزم بتاعتها". هزّ محمود رأسه موافقة "رغم إني عمري ما اشتغلتها"، رأى فرصة عمل جيدة تلوح له فالتقطها "اتعملي عقد بـ80 جنيه، وخدت ميزانية أجيب بيها وفضلت أعمل جزم الفنون الشعبية لحد سنة 85".

في تلك الفترة كانت فرق الفنون الشعبية "مسمّعة"، ظل محتفظًا بوظيفته في مصنع المعهد العالي للباليه، لكن داخل ورشته الصغيرة صنّع أحذية 15 فرقة قومية من محافظات مختلفة "كان ليا شهرة كبيرة، وكل الفرق بتطلب مني شغل".

مع مطلع التسعينيات بزغ نجم الباليه، فيما أخذت الفنون الشعبية في الأفول "الميزانيات قلّت وبدل ما كل سنة يغيروا الأطقم بقوا يعتمدوا على القديم وتصليحه"، منذ تلك الفترة ركّز محمود على صناعة أحذية الباليه وحسب، لكن تأتيه طلبيات من حين لآخر لأحذية فنون شعبية.

أحيت فرقة باليه دار الأوبرا المهنة من جديد في نفس محمود "كان صعب يجيبوا جزم من بره بالعملة الصعبة، فكانوا بيطلبوا شغل مني"، وفي عام 1991 أبرم عقدًا مع الدار "خدت 12 ألف جنيه، فتحت ورشة أكبر في العمرانية وجبت قوالب ومعدات، ومن ساعتها مبطلتش شغل".

افتتحت مدارس ومراكز خاصة للباليه، بات أعداد المُنضمات والمنضمين أكثر، فازدهرت صنعة الرجل الستيني، وكما كان لوالده الفضل في أن ينضم للمهنة، دارت الأيام واصطحب هو الآخر ابنه نادر. داخل الورشة في منطقة العمرانية يعمل الثنائي وبرفقتهما محمد على صناعة الحذاء وحتى صباغة ألوانه.

ينقسم حذاء الباليه إلى نوعين دوميه بوانت، والبوانت، تشرح سماح عباس مدربة الباليه داخل أكاديمية النادي الأهلي أن "الدوميه بوانت جزمة طرية وبتكون في التدريبات اليومية أكتر، لكن الدوميه من خامات مختلفة عشان يبقى بوزها صلب تقدر البنت تقف عليه".

طيلة عشرين عامًا تعمل سماح عباس في الباليه، من لاعبة حتى باتت مُدرِبة، وخلال تلك الفترة "مفيش غير عّم محمود اللي بنعتمد عليه في صناعة الجِزم". لا تختلف مواصفات الحذاء عما مضى وحاليًا "أهم حاجة وّش الجزمة يكون ناشف"، فيما الاعتياد على الحذاء يعتمد على لاعبة الباليه "ممكن واحدة من أول يوم تلبسه مظبوط، وواحدة تانية بعد تدريبات".

من داخل ورشته في العمرانية، انتقلت أحذية محمود إلى الخارج، استطاع في أوّج شهرته في فترة العمل بأحذية الفنون الشعبية أن يأتيه عرض من سلطة عمان "كل خمس سنين بنعمل طلبية من هنا"، بينما طارت أحذية الباليه التي يصنعها في فترة التسعينيات إلى أوروبا، بينما أحدث تطور الإنترنت في الألفينات إلى أن يُصنِع أحذية باليه لفرق بالإمارات.

لم يتكئ محمود على سُمعته، حين خرج على المعاش من مصنع المعهد العالي للباليه قبل سبع سنوات، كرّس كافة وقته للورشة، تأتيه الطلبيات فيكعف على إنجازها برفقة ابنه ومساعده "لو الموود كويس بعمل من 15-17 جزمة في اليوم"، بينما يهتم بكل تفصيلة في الحذاء حتى ألوانها "إحنا اللي بنصبغ اللون عشان يطلع نفس الدرجة اللي مطلوبة".

قرابة أربعين عامًا يفعل محمود صالح الأمر نفسه، يحيك الستان أو الحرير على شكل الحذاء، يضعه على القالب ويبدأ بالنقر عليه حتى يتخذ شكلًا، وفي حالة "البوانت" يضع خيشًا وغراء في بدايتها حتى تُصبِح صلبة، ثم تأتي مرحلة خياطة الحذاء لإخراجها في صورتها النهائية فتوكل إلى ابنه ومساعده. ينهمك طيلة اليوم الرجل الستيني في العمل، لكن ما إن ينتهي من صنع الحذاء "وتقف قدامي وألاقي شكلها حلو، بنسى التعب".

إعلان