في ذكرى الشهيد.. كيف ضَحى "الفايتر" وائل كمال بحياته فداءً للجنود

09:35 م الإثنين 29 يناير 2018

صديقه: الإرهابيون أطلقوا عليه "الضابط أبو شنب".. واستخدم حيلة للسخرية منهم

كتبت – نانيس البيلي:

"إحنا مبننساش وائل عشان نفتكره، هو عايش معانا، بحس إني مستنياه يدخل عليا".. 40 يومًا مرت على استشهاد الرائد وائل كمال أو خليفة "الشهيد أحمد منسي" كما اشتهر بين أصدقائه، ولا تزال والدته السيدة "صباح" تذكره، وكأنها تنتظر دخول "الحبيب" عليها مرة أخرى.

الرائد "وائل كمال" تحل اليوم الاثنين، ذكرى أربعينه، فقد استشهد في 20 ديسمبر الماضي، عندما افتدى القائد جنوده بنفسه ودخل في اشتباك عنيف وحيدا مع مجموعة من الإرهابيين قرب مطار العريش، خلال دورية تمشيط لضبط مطلقي القذيفة على المطار خلال زيارة وزيري الدفاع والداخلية.

والدته: حسيت إن كان عايش معايا واحد من الجنة

لا يهوٌن على الأم مرارة فقد فلذة كبدها - الذي لم يكمل عامه الـ28 – غير فخرها بأنها أم الشهيد، طوال مدة حديثها معنا من داخل منزلها في مدينة العاشر من رمضان، كانت تحاول جاهدة لتتماسك تنفيذاً لوصية ابنها "كان دايمًا يقولي يا ماما أنا لو استشهدت عايزك تبقي جامدة ومتلبسيش أسود وتماسكي، ده فيه ناس بيزغرطوا".

لكن الدموع غلبت الأم -التي استقبلتنا قبل أيام من حلول ذكرى أربعين ابنها-، عندما روت ما عرفته من زملائه عنه بعد استشهاده "حسيت إن أنا كان عايش معايا واحد من الجنة، وللأسف إحنا مكناش نعرف، ربنا يرحم الشهداء كلهم".

كانت آخر إجازة للشهيد مليئة بتفاصيل لم تنساها أسرته، تقول والدته: كان مرحًا ولا يكف عن الضحك ويمازح الجميع، "كان كل شوية يطلع من أوضته ويبصلي، يلاقيني قاعدة قدام التليفزيون ولا بعمل حاجة فيقولي أنا بحبك أوي يا ماما".

وتضيف أنه ضحك خلال زيارتهم لأحد أقاربهم، بصورة لفتت انتباهها "بعد ما سافر شُغله بقول لهيثم أخوه أنت مش ملاحظ إن وائل الإجازة دي مختلف عمال يضحك أوي، فقالي يا ماما ربنا يبسطه".

تصمت قليلاً وتقول إنها تذكرت هذه المواقف عقب استشهاده "الحاجات دي الواحد خد باله منها بعد كده".

قُوة بدنية ونبُوغ دراسي لافت عُرف بها الشهيد وائل منذ صغره، تقول والدته: بعد المرحلة الابتدائية انتظم في التدريب داخل صالات الألعاب الرياضية، "كان الحاجة المهتم بيها أوي لياقته، وداوم على الجيم من وهو صغير".

وتروي أحد المواقف وقتما كان بالثانوية العسكرية حينما تشاجر معه زميل يكبره بدفعتين وحاول مضايقته، فسدد له لكمات بالوجه، ما لفت نظر المدربين الرياضيين بالمدرسة "فطلبوا إنه يروح يتدرب ملاكمة". وبالفعل انتظم بها لفترة قبل أن يتوقف في السنة النهائية بناء على نصيحة والده "كان خايف عليه يتصاب فيتعطل عن دراسته وهو متفوق".

حصل "وائل" على مجموع كبير بالثانوية، وألحَقه التنسيق بكلية الهندسة، وفي نفس الوقت سعى لتحقيق حُلمه فسحب أوراق التقدم لكليتي الحربية والشرطة "مَلى أوراق الحربية وراح قدم بنفسه ونجح والله من غير واسطة ولا حاجة، أما دوسيه الشرطة سحبه بس ولسه موجود عندنا في الشقة". تضيف والدته: كان يحصل دائمًا على أعلى الدرجات في اختبارات اللياقة البدنية بالكلية الحربية "وبعد ما اتخرج كانت كل حياته لشغله".

وفاة والد "وائل" وعدم تمكنه من حضور جنازته بسبب ظروف عمله كانت من أثقل الأمور على نفسه، تقول والدته إنه سافر قبل حوالي 3 سنوات إلى دولة الكونغو للعمل ضمن قوات حفظ السلام، وبعد 6 أشهر توفي والده "انهار هناك، حاول إنه ينزل بس ما أمكنش"، وتضيف أنه خدم هناك لمدة عام، وفور عودته استقبله في المطار قائده ومعلمه الذي سبقه للشهادة العقيد أحمد منسي، فطلب منه الذهاب لزيارة قبر والده: "كلمته قولتله يا حبيبي استنى للصبح وكلنا نروح مع بعض، قالي لأ مش قادر".

لدى "وائل" أخت وأخ أكبر منه هما "هبة" و"هيثم"، تقول والدته إنه كان يُولي اهتمامه الأول لأسرته "كان حنين جداً رغم إنه أصغر واحد في إخواته"، وتشير إلى أنها كانت مثل أي أم تريد أن تفرح بزواجه وكانت تتحدث معه كثيرا عن خطوة الارتباط، بينما كان الأمر لا يشغله بسبب تركيزه الشديد في عمله كضابط بالصاعقة "كان بيقولي حاضر بوقتها يا ماما، بس ألاقي واحدة تستحمل طبيعة شغلي".

أصر على نقل نفسه لكتيبة "الشهيد منسي".. وقال: "أومال مين اللي هيجيب حقه"

لم يُخبر الشهيد "وائل" والدته بخدمته في سيناء خوفًا عليها. "لأن ماما على طول بتقلق علينا، ولو عرفت إنه في سيناء هتفضل طول الوقت قلقانة"، يقول شقيقه "هيثم"، ويضيف أنه أخبره هو وشقيقته فقط وأكد عليهما بإخفاء الأمر عنها "وعدناه إننا مش هنقولها حاجة، لأننا مقتنعين إنه عمل الصح".

وتقول والدته إنها لم تعلم بتواجده في سيناء غير يوم استشهاده عندما كانت تسأل عن مكان جثمانه "قالولي إنه في مستشفى العريش.. كان مفهمني إن كتيبته في المنطقة الغربية في مرسى مطروح".

عقب استهداف مطار العريش خلال زيارة وزيري الدفاع والداخلية، مساء يوم 19 ديسمبر الماضي، خرج الرائد وائل كمال في دورية تمشيط "ليلي" في محيط المطار لضبط منفذي الهجوم، وأصيب مجند ممن كانوا معه، فاصطحبه "وائل" إلى مستشفى العريش لعلاجه، وظل معه أكثر من 3 ساعات حتى اطمئن عليه.

في حوالي العاشرة مساءً، غادر النقيب وقتها المستشفى عائداً إلى كتيبته، وحسبما يروي صديقه، وجد زملائه بالكتيبة يستعدون للخروج في دورية تمشيط آخرى "دخل جهز حاجته وقالهم يلا بينا وخرج معاهم"، بينما كان من المفترض وفقًا للمعتاد أن يحصل على قسط من الراحة على أن يخرج في دورية تمشيط مساء اليوم التالي.

وفي الساعات الأولى من صباح 20 ديسمبر، تحركت 3 دوريات من الكتيبة لتمشيط محيط مطار العريش، بعد عدة أمتار تفرقت سيارات الدوريات الثلاثة في اتجاهات مختلفة، بينما تتواصل مع بعضها عبر جهاز اللاسلكي.

 

"متخافوش عليّ ده أنا رايح لحبيبي".. كانت هذه آخر كلمات قالها الرائد "وائل" لجنوده قبل استشهاده بعد اشتباكه مع مجموعة من الإرهابيين حاصروا سيارة كانت تقله و4 مجندين. كلمات فسرها المقربون منه بأنه كان يقصد حبيبه الشهيد أحمد منسي، -بينما قد تحتمل أنه يقصد الله-، وبعدها نطق الشهادة.

في الهجوم الإرهابي، تفاصيل دُفنت مع الشهيد وائل كمال، وأخرى لا تزال محفورة في قلب المجندين الذين نجوا من الموت. ذاكرتهم البصرية ستظل حية شاهدة على خسة الإرهابيين، تلك التفاصيل يرويها "أحمد كردي" الصديق المقرب لـ"وائل" والتي عرفها من الجنود الأربعة بعد أيام من استشهاد صديقه: "كان كل اللي هاممني أعرف وائل مات إزاي، وآخر حاجة قالها إيه قبل ما يموت".

فيديو توضيحي: كيف افتدى الرائد جنوده واشتبك مع الإرهابيين وحيدا حتى استشهاده:

صديقه: جمع أشلاء زميله تحت الرصاص وقال "أقسمت بالله ما هيسيب حتة منه"

وَجع كبير كان يعتصر قلب "وائل" كلما استُشهد أحد من أصدقائه أو جنوده. كان ذلك ثقيلاً على نفسه "بيتأثر جامد جداً لما يشوف صحابه وعساكره بيموتوا قدام عينه" يقول صديقه المقرب "أحمد كردي".

قبل حوالي عام من استشهاد "وائل"، كان وقتها يخدم بالكتيبة 50 بشمال سيناء وكان عائداً من إحدى دوريات التمشيط ضمن عملية "حق الشهيد"، هاتَف صديقه "كردي" بينما كان الآسى باديًا في نبرات صوته بسبب استشهاد صديق له بعبوة ناسفة حولت جسده إلى أشلاء، "قالي مش متخيل منظره كان عامل إزاي، بفتح العربة لقيت أشلاء، بقيت قاعد بلمه".

وأضاف كردي: أخذ يجمع أشلاء صديقه وسط طلقات الإرهابيين، وبعد ذلك دفنها معه "كان التكفيريين شغالين تعامل عليه نص ساعة، قالي أقسمت بالله ما هسيب حتة منه في الأرض.. كل اللي شاغله ميسيبش أشلاء صاحبه".

صديقه: الإرهابيون أطلقوا عليه "الضابط أبو شنب"

في الفترات الآخيرة قبل استشهاده، كان النقيب وائل يطلق شاربه، يقول أحد أصدقائه المقربين: عداوة كبيرة تأجَجت ما بين الإرهابيين بسيناء والشهيد "وائل"، واشتهر خلال تلك الفترة لديهم بسبب شاربه "كان التكفيريين راصدينه ومسميينه الضابط أبو شنب". ويضيف أن "وائل" لجأ إلى حيلة للسُخرية من الإرهابيين "خلى عساكر الكتيبة اللي بيطلع بيهم دوريات تربي شنباتهم فترة، فقدام التكفيريين بقى فيه كتير بشنبات، والعلامة اللي رصدوه بيها ضاعت".

مواقف إنسانية كثيرة زَخرت بها حياة الشهيد العسكرية، التي لم تتجاوز 8 سنوات، يروي أحد زملائه خدم معه في سيناء أن الشهيد كان يتواجد في الكتيبة 50 في الوقت الذي خرج هو في مأمورية بمنطقة جبلية، واستهدفتهم عبوة ناسفة، على إثرها أصيب مجند وبترت ساقيه.

الإخبارية وصلت إلى "وائل" بالكتيبة وعلم بإصابة المجند ونقله للمستشفى، وأنه يحتاج إلى نقل دم بينما كانت فصيلة دمه "O –" وهي نادرة "قعد يجري في المعسكر زي المجنون، ودخل على الناس في المبيتات يسألهم". بعد دقائق وجد "وائل" 3 أشخاص بالكتيبة يحملون نفس فصيلة الدم فهَرول بهم لإنقاذ المجند "خدهم وجرى بيهم على المستشفى في داخلة البطل عمر المصاب".

في هذه الأثناء، أخلى الضابط الراوي باقي المصابين من موقع الهجوم، وتوجه بعد ذلك للاطمئنان على المجند، "لقيت الدكتور بيقولي بعد ربنا لازم تشكر النقيب وائل هو اللي جابلنا الدم، مكناش لايقينها في المستشفى"، يصمت قليلاً ويضيف أنهم اعتادوا تلك المواقف الإنسانية منه "وائل رجولة وكان جدع".

صديقه: لقٌبه زملاؤه بـ"الفايتر".. وتمنى الشهادة وهو يقاتل الإرهابيين

"الفايتر" كان لقب الشهيد وائل الذي عُرف به بين زملائه وتعني "مقاتل"، يقول زميل له إنه كان دائمًا الأول عليهم في الرماية "كان شجاع وطلقته بتصيب، بيعرف يصطاد التكفيريين".

كثيرا ما تمَنى الرائد وائل الشهادة، حتى نالها بالطريقة التي أرادها لنفسه، مواجهًا الإرهابيين، يُسقط منهم قتلى وهو يُعلنها أمامهم في تحد "أنا ضابط مقاتل"، يقول صديقه "كوردي": "كان بيقولي أنا مش عايز أموت بعبوة ناسفة، يعني بعد كل اللي بعمله ده أموت منسوف في الآخر ولا أموت غدر من ضهري.. أنا عايز أستشهد وأنا بحارب وأقتل منهم ناس".

زملاؤه: حصل على امتياز في بعثة حفظ السلام.. وكان يطعم الأطفال الفقراء في الكونغو

قبل حوالي 3 سنوات، سافر النقيب وائل إلى دولة الكونغو ضمن بعثة الجيش المصري التي تعمل ضمن قوات حفظ السلام. يقول زميل له إنه أبدى تفوقٍا لافتًا خلال خدمته مع الجنسيات الآخرى بالبعثة التابعة للأمم المتحدة "كان بياخد شُكر من الجانب الثاني في كل مأمورية".

وأوضح أنه خدم هناك لمدة عام حصل فيها على تقدير امتياز. ويروي زميل آخر أن الشهيد جمعته مواقف إنسانية بالأطفال الفقراء هناك، وكان يعاملهم بود شديد ويطعمهم الفاكهة والحلوى "كانت الأطفال بتحبه جداً، كان مسموح إن الأطفال الأفارقة يدخلوله القاعدة اللي قاعدين فيها، فيقعد يلعب ويتصور معاهم".

علاقة فريدة بين التلميذ وقائده.. والدته: "استشهاد منسي كانت قسمة ضهر ليه"

علاقة فريدة جمعت "وائل" بالعقيد "أحمد منسي" شهيد معركة البرث، بدأت عقب تخرجه حيث كان الأخير قائداً للسرية التي خدم بها. تقول والدته إن استشهاد منسي كان له بالغ الأثر على نفسه "كانت قسمة ضهر ليه، أنا كنت خايفة على وائل جداً بعد منسي من الحزن اللي مسيطر عليه".

قبل حوالي 5 أعوام، تعرض "وائل" لحادث انقلاب سيارته، نجا منه بأعجوبة "العربية اتقلبت حوالي 5 مرات، فالناس فكرت إنه مات، لما طلع من العربية قعدوا يصقفوا أوي"، تقول والدته إنه تعرض لإصابة بالغة في كتفه ظل متأثراً بها حتى استشهاده، وأنها نصحته مراراً بعلاجه لكنه رفض "كان يقولي ما أنا مش عايز أطلع من الصاعقة".

تضيف: "منسي" هو من ذهب معه إلى المستشفى، ولم أعلم بالأمر غير بعد فترة وبالصدفة، فقد استضافه منسي لأيام بمنزله حتى تعافى قليلاً، "وخد بدلته تتنضف مع إنها كانت متقطعة ومش هتنفع، قال ما أدخلش على أهلك والبدلة عليها دم.. الله يرحمه منسي كان إنسان كمان فوق الوصف وروحه في وائل".

ويروي صديقه أنه كان متأثراً بقائده ولذلك أطلقوا عليه لقب "خليفة منسي": "كل صفات منسي وائل خدها"، حتى أنه أصر على نقله إلى نفس كتيبته بعد استشهاده، وعندما ناقشته في فكرة قلق والدته إذا علمت بالأمر أجاب "أومال مين اللي هيجيب حق منسي".

اقرأ أيضا:

"شلة منسي"| وائل يلحق بالقائد.. صورة الشهداء زادت واحدًا

"منسي لن يُنسى".. بطل جديد في ذاكرة التاريخ (ملف خاص)

لماذا تحولت صورة الشهيد "منسي" مع الصقر إلى "أيقونة"؟

إعلان