وجهة نظر: الصين.. شيطان أم ملاك ذو قناع؟

11:30 ص الأحد 11 أكتوبر 2015

بقلم - محمد أحمد فؤاد:

لندقق قليلاً، فربما لن نجد منظومة واحدة على وجه المعمورة، صناعية كانت أم تجارية أو اقتصادية إلا وسنجدها مرتبطة حتماً بخيط يبدأ أو ينتهي في الصين؟

إعلان

مارد اشتراكي عملاق يحتضن بأصابع فولاذية أكبر تعداد سكاني في العالم، ويتحكم بجدارة في أقوى الاقتصاديات على الإطلاق. طاقات متدفقة ومذهلة لم تدع درباً إلا وسلكته عارضة لخدمات وحلول متعددة المزايا في شتى المجالات.. فهل يصح إذاً إغفال ما لها من أهداف استراتيجية وطموحات توسعية في منطقتنا..؟ على أقل تقدير لتلبية احتياجاتها من مصادر طاقة رخيصة، وكذلك فتح مجالات في بيئة قريبة جغرافياً لتسويق منتجاتها من سلع وصادرات يصعب حصر حجمها..!؟

وبالرغم من تجنبها الدائم للظهور كطرف مباشر في أي من بؤر الصراعات، إلا أنها دولة ذات تأثير ملموس في دعم بعض القوى خلال صراعاتها الإقليمية، وظهر ذلك من خلال تعيينها لمبعوث صيني خاص للمنطقة عام 2002، وأيضاً في تعدد تبادل الزيارات الرسمية رفيعة المستوى مع دول الشرق الأوسط، وكذا البعثات المتكررة من القوات البحرية لجيش التحرير الشعبي الصيني في غرب المحيط الهندي والبحر المتوسط، والتي تهدف ظاهرياً لمكافحة القرصنة واخلاء الرعايا الصينيين من الدول ذات المخاطر كما هو الحال في ليبيا.

ودعونا ننظر بشكل أعمق داخل تلك الحضارة العتيقة؛ فربما استطعنا استشراف بعض ملامح تطلعاتها المستقبلية فيما يخصنا، وحتى لا تأخذنا المفاجئة كالعادة إلى ما لا نشتهي. في البدء نتوقف عند المعتقد أو المذهب لكي ندرك ماهية تلك الثقافة وكيفية التواصل معها، فالصين حضارة تمتاز بالثراء في المعتقدات، وقد حدث في القرن 19 الميلادي أن ظهر مزج عقائدي رسخ للاحتفاظ بما للمعتقدات الدينية من تأثير داخل العلاقات الأسرية فقط، وليس بالضرورة في الإطار المجتمعي الذي تحكمه اشتراكية صارمة.

وبعيداً عن المعتقدات الأساسية كالبوذية والكنفوشيوسية والطاوية والكاو داي والشنتو والشمانية، وأيضاً الديانات السماوية كالإسلام والمسيحية، يوجد هناك أكثر من 56 أقلية عرقية نجحت في الانخراط والتعايش على مر العصور من خلال منظومة اجتماعية تعاونية مدهشة.. ويعد كونفوشيوس 551 ق م : 479 ق م هو المُعلم والحكيم الأول في الصين، وقد خلف وراءه تراثاً أخلاقياً ثرياً يمكن اعتباره المذهب الرسمي للدولة الصينية، وبالرغم من أن تعداد معتنقي الكونفوشيوسية لا يتعدى 7 ملايين نسمة، فإن تمحور أفكارها في المجمل حول الأخلاق والآداب العامة قد أسهم بشكل كبير في تأثير تعاليمها على طريقة إدارة الحكم والعلاقات الاجتماعية في الصين، حتى أنها امتدت لتؤثر أيضاً على ثقافات شعوب شرق أسيا المجاورة عموماً، وربما كان أحد أسرار نجاحها بالإضافة لما تحويه من قيم وأخلاقيات تعاونية واشتراكية عميقة بعيداً عن المعتقد الديني، هو افتقارها الواضح لوجود أي سلطة فعلية للطبقة الكهنوتية من رجال الدين..!

المجتمعات التعاونية ذات هذا الحجم تعي تماماً فداحة الأضرار المترتبة على الحروب وما يتبعها من خسائر ودمار.. وتاريخ الصين لا يشي بأنها دولة تهوى الحرب كغيرها من بعض الدول العظمى، حتى أن ظهورها في الحروب العالمية الأولى والثانية جاء ثانوياً فيما يخص حماية حدودها ومنافذها البحرية، ولعل الحروب الأشرس التي خاضتها الصين هي حروب الصين واليابان، الأولى 1894 : 1895، والثانية 1937 : 1945 بداعي بسط النفوذ على كوريا، ثم حرب الصين والهند أكتوبر 1962، وقد جاءت تلك الأخيرة على إثر نزاع للسيطرة على منطقة حدودية في الهيمالايا، وانتهت بانتصار الصين في نوفمبر من نفس العام. وقد كان السبب الرئيسي لهذه الحرب القصيرة هو اخضاع إقليم أكساي تشين على إثر حوادث عنيفة تلت انتفاضة التبت، ومنح الهند حق اللجوء للدالاي لاما.. أكساي تشين يقع في الجزء الغربي من الحدود الصينية الهندية، وكانت أهمية السيطرة عليه قد مكنت الصين من انشاء طريق يربط إقليم التبت وإقليم شينجيانج، وإزالة نقاط عسكرية كانت الهند قد نشرتها هناك.

نستنبط مما تقدم أن الصين دولة لا تسعى لفرض النفوذ بآليات الحرب كما هو الحال لدى قوى عظمى أخرى تحترف هذا المنهج، لكنها بلا شك تتمتع بقدرات استثنائية تؤهلها للإجادة في المواجهات الاقتصادية على شاكلة ما حدث مؤخراً بقرارات منفردة من حكومتها بتخفيض لقيمة عملتها أمام بعض العملات الأجنبية وتقليص حجم الصادرات، مما عزز من قيمة اليوان أمام اليورو بعد تقليل حجم صادرات البضائع الصينية لدول الاتحاد الأوروبي، وتلك الإجراءات نفسها كانت قد أثرت سلباً على اقتصاد الهند المنافس التقليدي للصين بحجم صادرات يصل إلى 22 مليار دولار شهرياً، لأن تخفيض قيمة اليوان يزيد بالطبع من القدرة التنافسية للسلع الصينية في الأسواق العالمية.

وبالرغم من عدم ابداء الصين لأي توجهات توسعية عسكرية، إلا أنها معنية بالضرورة وبشكل كبير بمسألة تصنيع وتجارة السلاح، وربما اضطرتها الأجواء التنافسية مع القوى العظمى الأخرى إلى الانخراط بشكل أو بأخر في سباقات التسلح.. وفي هذا الصدد أشارت تقارير للبنتاجون عن تنامي القدرات العسكرية للصين نُشرت عام 2011 على لسان نائب الأدميرال ديفيد دورسيت الذي قال: "لقد كنا دائماً نتتبع التطورات العسكرية على الجانب الصيني سواء تعلق الأمر بالتكنولوجيا العسكرية أو أنظمة التسلح، وعلينا الاعتراف أنهم باتوا أسرع في تطوير أنفسهم مما كنا نعتقد." وبعقد مقارنة سريعة بين حجم النفقات العسكرية بين بكين وواشنطن قد تنعكس بالفعل هواجس كل دولة تجاه مسألة التوسعات وبسط النفوذ بآليات الحرب، فميزانية البنتاجون تزيد عن نصف ترليون دولار دون حساب تكاليف الحروب، بينما لا تتجاوز النفقات العسكرية الصينية مع زيادة مخصصات الدفاع عام 2011 بنسبة 12.7 في المائة، ستمائة مليار يوان، أي ما يعادل 94 مليار دولار.

الثابت حالياً أن الصين تتقدم تجاه الشرق الأوسط، ولكن بتباطؤ شبه متعمد، ولديها من أسباب عدم التعجل الكثير، هذا بالرغم لما لديها أيضاً من علاقات وشراكات تؤهلها للعب أدوار رئيسة هناك؛ فبوادر فك أو تقليص الارتباط الأمريكي بالشرق الأوسط تبدو مريبة وغير واضحة المعالم، بل أن رائحة الدماء هناك زادت بصورة ملفتة، ويبدو أنها أغرت الدب الروسي وأوروبا العجوز بالحضور بقوة للمشهد. وفي سياق أخر يحمل بصمات أمريكية، تزداد مساحات الصراع الأمني والاقتصادي في المحيط الأسيوي خصوصاً منطقة بحر الصين، مما سيقلل من فرص تقدم الصين بعمق أكبر وأسرع تجاه الشرق الأوسط لأسباب تتعلق بأمنها داخل مناطق نفوذها، وإذا ما وفرت منطقة أسيا الوسطى ممرات برية آمنة لنقل واردات الصين من النفط، فسيؤخر هذا أيضاً من فرص اعتماد بكين على الممرات البحرية في مناطق الصراع بالشرق الأوسط.

وربما هذا هو ما يفسر التقارب الشديد في العلاقات الصينية الإيرانية، فإيران لاعب رئيسي في منطقة الخليج العربي، وأيضاً في منطقة بحر قزوين وتصلح لتكون حليفاً يُعتمد عليه.. والصين عملاق صناعي ضخم، لكنه فقير في مصادر الطاقة، لذا تجدها اعتمدت خطط مستقبلية طموحة لتؤمن حصصها من النفط والغاز من تلك المناطق وبالأخص منطقة بحر قزوين، وقد مدت الصين خلال الأعوام القليلة الماضية خط أنابيب للغاز بفرعين يبدأ عند حقل غاز سامان- داب في تركمانستان، ثم يمتد عبر أوزباكستان وكازاخستان، كما أنشأت خطاً أخر لنقل النفط من كازاخستان إلى الشانكو في شينجيانج (تركستان الشرقية ) بالصين، وقد اكتمل هذا الخط عام 2009، وتسعى الصين كذلك نحو توقيع اتفاقيات طويلة الأمد مع دول المنطقة مثل تلك الموقعة بينها وبين تركمانستان لتوريد 30 مليار متر مكعب من الغاز للصين حتى عام 2039!

أمريكا تخشى التقدم الصيني، وأي تقدم للقوى العظمى الأخرى في مناطق نفوذها، لهذا يتقمصها دائماً شيطان الحرب.. ولذا فهي متواجدة بكثافة وخبرة في الشرق الأوسط، وتتحرك بقوة في منطقة بحر الصين، وأيضاً تمد أصابع العبث لمنطقة بحر قزوين عبر أذربيجان.. فهل ستظل تلك المناطق بؤراً محتملة لمواجهات خطيرة في المستقبل، أم أن صراعات الشرق الأوسط ستكون كفيلة بإسقاط الجميع في مستنقع حروبها غير معلومة المدى!؟

 

إعلان