إعلان

الكتابة والحياة و"حكمة القلب"..

د.هشام عطية عبد المقصود

الكتابة والحياة و"حكمة القلب"..

د. هشام عطية عبد المقصود
09:31 م الجمعة 11 نوفمبر 2022

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

طالعت نصا قصصيا مدهشا ترجمه وقدم له الروائي المصري الراحل علاء الديب، وذلك ضمن ترجمات أخرى في كتابه مختارات من القصص الأوروبية والأمريكية الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، والنص هو للروائي الأمريكي هنري ميللر يحكي فيه شيئا عن تجربة وهدف الكتابة وعنوان النص هو: "حكمة القلب" يرى فيه أن الكتابة مثل الحياة رحلة اكتشاف دائم، مغامرة ميتافيزيقية، طريق غير مباشر للتعامل مع الحياة. ويضيف: " لست سوى رجل يقوم برواية تاريخ حياته، هذا عملى الذى لايفرغ أبدا، بل هو يتعاظم كلما تقدمت فيه، إنه كتطور العالم لانهاية له"، ثم بحثا عن تفرد أو صوت روائي خاص يقص حيرته وما سلكه فى سبيل ذلك "حاولت أن أقلد كل أسوب بحثا وراء السر الذى كان يهرب منى دائما كيف أكتب؟"، ثم يكمل: موضحا كيف صنع صوته الخاص وتجربته بعد أن صفاها من الكتابات التى تأثر بها: "ألقيت بكل شيء فوق ظهر الدولاب، حتى هؤلاء الذين أحببتهم أعظم الحب، وسرعان ما سمعت صوتي الخاص، وعندما سمعته انتشيت به، لقد كان صوتا منفصلا، قادما من بعيد متميزا".

ويثير هذا النص القصير قضية بواعث الكتابة لدى الروائي كما يمكن أن يمتد السياق إلى المبدع والكاتب بشكل عام فى مجالات الأدب والفنون، ولعل واحدة من أجمل سير الكتابة عموما والكتابة الروائية خاصة ما قدمه الروائى الإنجليزي جراهام جرين فى مذكراته المعنونة "تجربتي فى كتابة الرواية" أو بالأحرى "طرائق للهروب" كما جاءت في سيرته الذاتية التى ترجمها أحمد عمر شاهين ونشرتها دار أخبار اليوم عام 1991 وذلك عقب وفاة المؤلف غزير الإنتاج الذي قدم ما يقرب من 24 رواية وعددا كبيرا آخر من مجموعات القصص القصيرة والمسرجيات وكتب الرحلات فضلا عن سيناريوهات الأفلام السينمائية.

والكتاب يتعامل مع الكتابة الروائية كتجربة إنسانية نابضة يمزجها بوقائع الحياة لتكون تعبيرا فذا عن تحولات النضج وفكرة التطور رؤية وتاريخا، مؤكدة على أن الكتابة ليست عملا ساكنا تقف حدوده إبداعيا عند نقطة نمو متكلسة لايتجاوزها الروائى بل تواصل على مدرج يتطور، وهى رؤية تنبع من تجربته وحالة التأليف الغزيرة المستمرة والمتطورة لديه، والتى ربما ميزت تجربة الروائيين أصحاب الإنتاج الغزير، والتى تجعلهم يتجاوزن البدايات تطورا ونموا وإصرارا، وهى تقف في مساحة هى على عكس تجربة الروائيين أصحاب الإنتاج المحدود وربما أيضا المتشبثين بتسلط فكرة الكمال الفنى على أعمالهم فتقلص من غزارة الإنتاج، وخاصة من أصحاب النتاجات القليلة والتى تبدأ بعلامة روائية قوية ومؤثرة وربما عملاقة، وكأنها مقامات نضج متأخر، فتقف عائقا عن الاستمرار خشية عدم تجاوز البدايات فنيا، فيحول ذلك بينهم وبين التسامح مع الذات الأدبية ثم الإستمرار فلا يتركون أنفسهم لمراودات وغوايات الكتابة.

لهذا ربما نلحظ فى كثير من الآداب العالمية هذين النوعين، الكتاب والمؤلفون أصحاب التجارب القليلة الفذة فى مقابل الكتاب أصحاب الإنتاج الكثيف الذى ينضج وينمو على مهل فى اتجاه تطور وغايات فنية واسعة.

يصف جراهام جرين في الكتاب تجربته من زاوية أنها: "كانت طرقا للحياة، وإنى أعتبر الكتابة شكلا من العلاج النفسى" بل ويتساءل مندهشا: " كيف يمكن لأولئك الذين لايبدعون أدبا أو رسما أو موسيقى أن يهربوا من الجنون والكآبة والذعر المتأصل والملازم للوضع الإنسانى وحيث كتب الشاعر الإنجليزى أودن يقول الإنسان يحتاج إلى الهروب احتياجه إلى الطعام والنوم العميق".

ويحكي جراهام جرين ملامح تطوره ونظرة الروائى كثيف الإنتاج لأعماله الأولى:

"فى رواياتي الأولى لم يكن الحبل السرى مع الشخصيات قد قُطع غالبا، وسوء استخدامى المزعج للتشبيه والإستعارة، وهناك الكثير جدا من الصفات وشروح كثيرة للدوافع بلا ثقة فى قدرة القارئ على الفهم والإدراك، الوصف مطول والحوار مبهم مع إن الحوار فى الرواية لابد وأن يكون شكلا من الفعل والإسراع فى الفعل"، ثم يقولها صريحة بلا لبس:" كل من روايتي الثانية والثالثة يمكن للمرء أن يجدهما فقط فى مكتبات بيع الكتب القديمة، فقد أوقفت طباعتهما وهما من الرداءة بحيث أنهما تحت مستوى النقد أو حتى مجرد استشارة أى ناقد، السرد فيهما مسطح ومتكلف مع لغة طنانة".

ويقدم أيضا في ذات السيرة شهادة عن قيام بعض الروائئين بالكتابة للسينما وماتشكله تلك التجربة لديهم من ملامح ما تقاطعا أوبعدا عن تجربة الإبطاع الروائى: " شاشة السينما ليست كصفحة الفولسكاب تختبر عليها الفكرة، كما أن هناك أيادى آخرى تتدخل، ورغم أن تجربتى فى السينما كانت سعيدة ومحظوظة، ومع ذلك كم شعرت بالراحة حين عدت الى عمل الرجل الواحد، إلى خصوصية الغرفة التى تتحمل فيها المسئولية الكاملة من النجاح أو الفشل" .

إعلان