إعلان

الرقم والعام الجديد: "وابدر على الناس محبة"...

د.هشام عطية عبد المقصود

الرقم والعام الجديد: "وابدر على الناس محبة"...

د. هشام عطية عبد المقصود
07:00 م الجمعة 01 يناير 2021

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

تبدو أجمل تجليات قدوم عام جديد متمثلة في تلك الرحابة النفسية ومساحات الأمل والثقة التي يتلقى بها الناس ويستشرفون قدومه، رغم أنه يظل مجرد رقم إضافي في سجل تاريخ الزمان الذي يمضي بوتيرته عبر ملايين بل بلايين السنوات مما أدركتها البشرية، منها ما وثقته ومنها أيضًا ما لم تحط به خبرًا.

وهكذا ومع إطلالة كل عام جديد يصنع الناس أمنياتهم الشخصية، وتمنح مساحات التفاعل عبر منصات التواصل الاجتماعي مشهدًا اجتماعيًا متنوعًا له تجليات مبهجة ومرحبة حافلة بالتوقع والحبور، وحيث يبدو من تحليلها وكأن سكان كواكب ومجرات التواصل الاجتماعي صاروا أو كادوا يعتقدون أنه هكذا تتحدد أشكال وتجليات ما تجلبه الأيام منقطعًا عن تاريخها وسريان وقائعها، وأن مجرد تغير الرقم الجديد في أرقام التقويم -ميلادي أو هجري- هو في ذاته حاملًا لأثر وتغيرات بالضرورة مشرقة، وهو شيء يظل لطيفًا ممتعًا من منطلق أنه يمنح البشر عبر جغرافيا الكون التقاطات أنفس وهدأة، ما يغذي طاقة استمرارية الحياة لدى الناس فتمضي بهم.

ورغم أن الذاكرة المنطقية والحسابية التي يواريها الناس عمدًا قد اختبرت دومًا وعبر خبرات مرور الأعوام عليهم، أن تغير ذلك الرقم الدال على عام جديد ليس وحده صانع التحولات، ويظل ذلك من طبائع وأيضًا من عادات الناس رغم وعيهم المتوارث بأن انقطاعات صيرورة الأشياء ليست أبدًا مرتبطة بتغير الرقم على نتيجة الحائط أو تقاويم الموبايل الرقمية، وإنما هي ترتبط بسُنتين كونيتين متداخلتين، أولاهما هي قانون تقادم الأشياء وما يصيبها من تآكل أو تعطل أو غيره من عوارض التقادم، والأخرى، وهي نقيضتها وموازية لها وتتعلق بنزوعات الإبداع والتجديد والاكتشاف المستمرة في مجال مكابدة الحياة، وهي ما تضفي حيوية جديدة وانطلاقًا جديدًا في مجالات البقاء والسعي تأسيسًا على فكرة العمل والمنجز، وأنه ومن ضفيرة جدلية التقادم والابتكار تنشأ وتتحدد ماهية التغيرات فرديًا وبشريًا وما يكون نصيب الفرد منها إيجابًا أو سلبًا.

لكن تبقى تعلقات الرجاء تلك زهورًا متجددة تتعلق بالأرقام وهي تترى على التقاويم، تقاوم في أمل واضطراد ما يعرفه الناس قرونًا، وتعبر عنه السيدة أم كلثوم غناء: "سوف تلهو بنا الحياة وتسخر"، ومحتشدين بأنه قد يلوح ويأتي ما يبهج، أو على الأقل فقد خامرنا الأمل فيه بهجة، أو كما يقول الفلاسفة يكفي أنه: "قد عشنا بها زمنًا رغدًا".

مع قدوم عام جديد لا أنفلت أبدًا من ترديد مقطع في أغنية من ستينيات القرن المضي لسمير الإسكندراني، تلك التي طالعتها طفولتنا ومراهقتنا وسايرت أيامها، وخاصة ذلك المقطع البهي "وابدر على الناس محبة وبسمة في كل دار"، وأعتبره أنشودة ورجاء العام الجديد لدي، رغم أن المقطع والأغنية كلها لم تكن أبدًا مرتبطة بقدوم عام جديد، ولكنها كانت تعبيرًا عن زمن الواقعية المفرطة، وحيث تدوي جمل وتعبيرات التزام بحضور الفردي مع الجمعي لا ينفصلان ضمن منظومة ثقافة وفن؛ ليكون الفن للحياة ونبتة داخل "بستان الاشتراكية"، ستعرف ذلك من المقطع الأول لتلك الأغنية الذي يأتي هكذا: "يا رب بلدي وحبايبي والمجتمع والناس.. اجعلني دفعة قوية في عجلة الإنتاج.. إخواتي تلبس وتاكل.

عبرت الأغنية عن زمنها وبشرها ومسار أيامها في ستينيات القرن العشرين، لكن في سياق كل تلك الحماسة الجمة والرومانسية معًا، ومتخللا ثناياها يأتي مترقرقًا المقطع الفذ كأنه أمنية ورجاء العام الجديد: "وابدر على الناس محبة..."، هي تحية وأمل وتضرع ورجاء إنساني مفهوم تمامًا.

يأتي العام الجديد وترتفع التشوقات بأن يمنحنا الله القدرة على تجاوز كل المحن المتعلقة بالكون كله، وهنا يبدو كورونا تجسيدًا غشومًا إذ جسد المثل القديم المألوف: "قطعت جهيزة قول كل خطيب"، وحيث كورونا وكوفيدها العتي البائس هو من فعل كل ذلك بالبشرية، فقلص من احتفالهم ومن مظاهر فرحهم ومن توثبات الأمل لديهم، وصنع تذكيرًا مقيتا في ذروة انشغالنا واحتفائنا بتغير الرقم، بأن الحياة والتقدم لا يسيران في خط صعود دائم مستمر، وإنما في تعرجات وانحناءات تشبه تمامًا ما تعارف البعض عليه بمنحنيات وخطوط الحظ والعمر والتحقق على باطن اليد، وحيث: "كذب المنجمون ولو صدقوا".. وبالطبع سواء كان كذبهم أو صدقهم كثيرًا أو قليلًا.

العام الجديد ورقمه المختلف يرتبط بشيء نفسي تمامًا، هو الحاجة إلى اصطناع نقطة فاصلة تتغير فيها الأحداث ومسارات الحياة الشخصية نحو ما يشتهي الفرد، يتجسد دالًا في الأمنية التي أطلقها شعبان عبدالرحيم ترحيبًا بعام جديد مضى: "من أول يناير حكون إنسان جديد.. وحبطل السجاير وأشيل حديد"، عام جديد ورقم جديد تصنع في مخيلة التمني رغبة تحول مفاجئ مثالية، كما تذكرنا أيضًا بتلك التقاليد الدراسية الراسخة التي طالما مر بها الطلاب المُجدون منها وسواهم، حين يستشعرون كسلًا ما، بأن يعد نفسه بأه، ومن أول الأسبوع القادم أو من الشهر القادم سأنظم جدولي؛ بل ويشرع تأكيدًا لذلك في عمل لا يكلفه كثيرًا تهدئة واطمئنانًا بإعداد جدول للإنجاز جديد.

تظل تلك التعلقات والأمنيات بهية جالبة للأمل، حيث تفتح مسارات داخل النفس والروح وربما تصنع نوازع سعي وعمل في اتجاه ما هو قادم، ويظل ذلك طيبًا، حتى لو ظل شغفًا أو طائرًا محلقًا يصنع بهجة الروح والرؤيا معًا.

إعلان