العيد .. بهجة اللقاء وأثر من سائغ طعامه

09:36 م الجمعة 31 يوليه 2020

د. هشام عطية عبد المقصود

يصنع العيد وأيامه بهجته الخاصة، يحفر أثره بثبات على صخور الزمان، نقوشا تبقى وتمضي تكبر معنا محتشدة بالوجوه الطيبة، وتوقيتات بهية مقتطعة كأنها محطات الوصول بين انشغالات وغيابات وبعض من أرق، شيء يشبه السطوع المبكر لشمس النهار الجديد وهو يمسح من ذاكرته بقايا الأمس وتوالياته المتشابهات، وحيث ينطبق الوصف على مقتضى الحال حين يجتمع شمل الأهل فيكون "أوان وجودنا دا يبقى عيدنا .. والسعد فيها أشكال وألوان" وكما يغنيها فريد الأطرش.
1/ فتة العيد ..
لاشيء من طقوس الأعياد أكثر التصاقا فى الذاكرة من طبق أو صينية فتة العيد، طعام العيد الذى يؤرخ ليومه الأول، بسيطة فى إعدادها، بهيجة فى شكلها، بمنثور الثوم ذهبى اللون يتألق على سطح أرزها شاهق البياض، حالة من تجانس تمضى عبر السنوات وتحمل دوما ذائقة الاشتهاء الجميل ، هل تغيب عنها أبدا وجوه الأمهات ؟!.
طعام المحبين حين يلتقون متصافحين فى صينية واحدة، أو حين يتفرنجون قليلا فيصنع كل منهم طبقا خاصا، بينما يصر البعض متمسكا بطقسه الأول لمن شاء لمشاركته سبيلا، تلك هى حقا المأدبة الخالدة، وهل يليق الوصف والمقام بغيرها، وإذ يتحلق حولها من ليس فى قلبه غرض.
ستتغير صروف الزمان وتحمل معها أشياء كثيرة، بينما تبقى "الفتة" راية المسرات، حاملة عبق تواصل السير على خطى درب الطفولة الأول.
ولعل أكثر ما يدهش هو كيف منحت تعابير وتحولات الأشياء بعضا من الدلالة السلبية والغريبة لمفردة "فتة" عند استخدامها فى سياقات الحديث فى غير موسم الأعياد، لتكون تعبيرا عن حالة من "السبهللة" ولعل المثل الدارج "عايم على وش الفتة" يحضر هنا، وحيث لم أعثر على أصل تاريخى او اجتماعى له، يعيد فك طلاسمه، لكنه متواجد ربما ليقول شيئا ما، ربما تم توظيفه فى سياق ما وتحريف عبر الزمن ليدل على شئ من أثر طعام الفتة على بعض الآكلين لها فى غير موعدها، وحيث تبدو فى سياق المثل دلالة كأنها حلاوة الطعم مسكرة ذاهبة بالعقل صانعة للاسترخاء الذى يعقب لذة الالتهام، ربما تم تضمين هذا الأثر فى المثل دلالة ليستخدم فى سياق آخر.
لا مشكلة أبدا، ستبقى صينية الفتة طبق البهجة الدائم وعلامة لا تخطئ على أول يوم العيد وعلى حضورك وسط "أعز الناس".
2/ "بيت العيلة" ..
ستكبر حتما ويكبر كل من حولك، وستعرف بيوتا وأبنية كثيرة، وستدخل أمكنة شتى، بعضها يبهرك ظاهره ويأسرك محتواه، بينما سيبقى ذلك البيت الذى يلتصق بذاكرتك براحا يتسع للمحبين هو كل البهجة، ذلك هو صاحب اللقب الفخيم "بيت العيلة"، والحكاية ليست أبدا فى المكان بل البشر الذين يصنعون ملامح المكان ويضفون عليه حضورهم وتاريخ محبتهم، العيد فى بيت العائلة موعد لايخلفه أحد، ولا ينشغل عنه الساهون، يحضر إليه الكل من شتى بقاع الجغرافيا بعيدها وقريبا، لا يحتاج أحد منهم دعوة أو موعدا، الكل يلبى والكل متأهب لذلك، هكذا يصنع المصريون ذاكرة العائلة فتستمر.
3/ صلاة العيد ..
حيث نفتقد البدر، والبدر هو دوما صلاة العيد، رحلة شتائية وصيفية – وفق موسم حلوله- يسهر لها الأطفال دون نوم ويختطف فيها الكبار بعضا من سويعات قلائل، ليلتقى الكل فى البراح، يسير الأطفال فى معية الشباب والكهول والشيوخ كأنها شجرة عائلة تحفظ سيرتها الأرض، ويمضون الى الساحات لتتشكل مشاهد تعانق الأيدى والوجوه ومصافحة الغائبين زمنا والعائدين شوقا، ليتسع نطاق لم الشمل من العائلة ليضم كل من يحضر، وتكون الكلمات المتدفقة صدقا السائغة محبة "كل سنة وانت بخير" هى بالونات العيد المتألقة تطير فى منتصف المسافات بين الناس.
وحيث أكدت جائحة كورونا وتداعياتها واحترازاتها شيئا كهما، هو كيف أن كثيرا من الأشياء البسيطة تماما فى حياة البشر كافية وحدها دون مزيد لتمنح الصفاء والطمأنينة، مصافحة الأيدى، والجلوس اصطفافا على الأرض استماعا للخطيب وهو ينتهى بالقول "صلاة العيد أثابكم الله"، وحيث بعدها ينطلق الناس فى بهجة اللقيا سيرا نحو البيوت، وحيث تهل منها روائح ما تحب واعدة تتهادى نحوك، فتبتسم محبا واثقا عارفا أنه العيد.

إعلان

إعلان