إعلان

في زمن كورونا: الأولوية للإنسان أم للاقتصاد؟!

د. أمــل الجمل

في زمن كورونا: الأولوية للإنسان أم للاقتصاد؟!

د. أمل الجمل
07:00 م الأحد 05 أبريل 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع


في الأيام الأخيرة، انتشر على موقع يوتيوب فيديوهات عديدة لرجل الأعمال الفلسطيني الأردني طلال أبو غزالة. كان المحاورون يُشيرون إلى مكانة الرجل العلمية، ومقالاته، وتحذيراته، مثلما يتحدث هو عن تنبئه بكوارث اقتصادية وحروب ستقع في ٢٠٢٠.

شاهدت كثيرا من لقاءات أبو غزالة، حتى تلك التي تعود إلى ما قبل وباء كورونا بسنتين وأحياناً ثلاثة، حتى أفهم شخصيته وأسلوب تفكيره. وصدقاً لم أجد أي تنبؤ فيما قال. فقط قراءة للمؤشرات الاقتصادية للوضع العالمي، خصوصا الصراع بين الصين وأمريكا، وانبهاره بالتكنولوجيا وانشغاله بمتابعتها، وأن هذا الصراع بين الاثنين سيقود إلى حرب عالمية ثالثة، توقع أبو غزالة أن تنشب الحرب في أكتوبر ٢٠٢٠ بمناسبة الانتخابات الأمريكية.

بداية، لا بد من التأكيد على الاحترام الكامل لشخصية أبو غزالة، خصوصاً أنه بنى نفسه تقريباً من الصفر، فواصل رحلة كفاح نادرة في التعليم، والتفوق، رغم عدم امتلاكه أية إمكانيات مادية، بعد أن طرده جنود الاحتلال من بيته وأرضه هو عائلته وفقدوا ممتلكاتهم.

حكاية صعود أبو غزالة في حد ذاتها رحلة مشرفة، ونموذج يقتدي به الشباب في عدم الاستسلام، والنجاح. مع ذلك فإن ما يقوله من تصريحات لا يدخل في باب التنبؤ. كما أنه لم يتنبأ بفيروس كورونا أبداً. وبعكس بيل جيتس لم ينشغل أو يشير في أي من حواراته إلى القطاع الصحي وأهمية العمل على مواجهة الفيروسات. فقط تحدث أبو غزالة عن الحرب الوشيكة بين الصين وأمريكا، ودعونا نقُل إن المتابع للسياسة الدولية يُدرك جيداً أن هذا التوقع كان مطروحاً. طلال أبو غزالة نفسه يقول، ويؤكد أكثر من مرة أنه يقرأ التقارير التي تصله من جهات دولية، يقرؤها كأنه تلميذ يتعلم، يضع ملاحظاته، يستعين باقتباسات منها.

رؤيته لمصر

أسلوب العمل والحياة هذا ما يجب أن يتوقف أمامه الشباب والشابات، والقادة في أي دولة عربية. والسلوك الدراسي التأملي الذي يتبعه طلال أبو غزالة. لذلك لم يكن من فراغ أن تجده قبل عدة أشهر - من أزمة كورونا - يتحدث عن إعادة خلق نظام عالمي جديد تتسيد فيه الصين المرتبة الأولى اقتصاديا، تليها الهند، ثم تأتي أمريكا في المرتبة الثالثة. طبعاً لا ندري ماذا سيكون مصير الهند بعد كارثة وباء كورونا، لكن المؤكد أن هذ الوباء سيؤكد مكانة الصين الأولى على مستوى الاقتصاد العالمي رغم ما حل بها.

من بين ما استوقفني وأثار دهشتي في لقاءات رجل الأعمال طلال أبو غزالة كان تقديره للتجربة المصرية، وتوقعه بأن مصر ستأتي في الترتيب السادس اقتصادياً بين دول العالم. لماذا وكيف وصل لتلك النتيجة، لأن الناتج القومي ارتفع ٨٪، بينما الصين نفسها الناتج القومي عندها ارتفع فقط ٦٪، لأنه أيضاً- وفق رؤيته - قامت القيادة المصرية بالاهتمام بالبنية التحتية، وإعادة التركيز عليها، هذه البنية التحتية هي التي ستجني الثروات وتحققها وفق رؤية أبو غزالة.

إنه يرى أيضاً أن الإنسان والمواطن المصري لم يكن راضياً عن تلك التطورات في البنية التحتية؛ لأن أثرها ليس مباشراً عليه، لذلك يدعو وسائل الإعلام المصرية أن تركز على أن هذه البنية التحتية هي لخدمة الأجيال القادمة من الأبناء والأحفاد. طبعاً تلك الرؤية كانت قبل اندلاع وباء فيروس كورونا. فهل يصمد توقعه بعد جائحة كورونا؟!

توافق رؤيته مع ساويرس

لفت نظري أيضاً عدم استسلامه للمنتقدين والمهاجمين، والتأكيد على رؤيته للإنسان وضرورة النهوض بالاقتصاد. رأيته يتوافق مع رؤية المهندس نجيب ساويرس، عندما تحدث عن العمالة والحفاظ على الاقتصاد. لم يكن حديث ساويرس يخرج عن نطاق ما رسمته الدولة المصرية نفسها. فالدولة لم تمنع الخروج للعمل، فرضت ساعات للحظر، حتى يواصل بعض فئات العمال أعمالهم. قد يختلف البعض حول ذلك الاقتراح. لكن السؤال: لماذا لا نبحث عن حلول خارج الصندوق؟ ولماذا يعترض البعض، ويصمت عن تلبية احتياجات الناس من المواد الغذائية، ويتحدث البعض عن ارتفاع الأسعار؟ الأمور كلها متعلقة ببعضها في دائرة معقدة، فالأسواق لكي تستمر في ضخ المنتجات والخضروات والفواكه تحتاج إلى عمال، كذلك محال البقالة، والسوبر ماركت لكي تفي باحتياجات الناس لا بد أن تواصل ماكينات المصانع دورانها.

أتذكر أن المهندس نجيب أثناء حواره مع الإعلامية لميس الحديدي اقترح بقاء العمال في المصانع. بأن يتم توفير أماكن إقامة لهم. شخصياً أراه اقتراحا يستحق الدراسة. أراه اقتراحا ضروريا في هذه الفترة الحرجة، حيث سرعة انتشار الفيروس، وحيث إن مصر تجاوزت رسمياً الألف حالة منذ ساعات.

إن تحرك العمال إلى المصانع، ثم العودة إلى بيوتهم يحمل مخاطرة، وهناك احتمالية بدرجة كبيرة أن لو أحدهم أصيب أثناء هذه الرحلة فسوف يتسبب في نقل العدوى لأسرته وربما جيرانه وآخرين من دائرة معارفه وعلاقته.
لذلك إن كان من الضروري مواصلة عمال المصانع أو المهن الأخرى أعمالهم يتم توفير أماكن إقامة لهم على مدار هذا الشهر حتى نجتاز تلك المحنة. وليعتبروا أنفسهم في مهمة سفر. أرى في ذلك حماية لأسرهم وللمجتمع.

الناس أم الاقتصاد؟

هذا يقودنا للسؤال الذي يطرح نفسه: لمن الأولية الآن: حماية الناس أم الاقتصاد؟ لكني أتساءل: لماذا نفاضل بين الاثنين؛ إذا كانت الصين نفسها التي نحاول أن نقتدي بالسيناريو الذي اتبعته أعادت العمال إلى المصانع الآن رغم وجود العدوى مجددا؟!

شخصياً كنت مع فكرة العزل التام، وإرغام الناس على عدم الخروج، وتوقف الأعمال خلال هذا الشهر، لكن اتضح أن هذا الأمر مستحيل في مجتمعنا.
الحقيقة أن الأمر ليس مقتصرا على مصر، يحدث نفس الشيء في إنجلترا، وفي دول أخرى. الصين نفسها كان بها ناس تكسر الحظر مما جعل السلطات تستخدم الطيارة بدون طيار لتراقب الناس وتمنعهم. إذن علينا البحث عن حلول آمنة.
نعود لسياسة الصين التي نحاول اتباع نهجها لمواجهة وباء كوفيد ١٩. فماذا قال رئيسها شي جين بينغ؟
قال: «إن الأرواح مهمة، لكن مستقبل الصين، ومستقبل اقتصادها، ومستقبل أجيالها القادمة التي ستعيش بعد هذه الأزمة أيضا مهم. علينا أن نسير في خطين متوازيين، الأرواح مهمة، لكن أيضاً للاقتصاد أولوية».

هل نريد دولة جياع، فاشلة؟!

كذلك، رجل الأعمال الفلسطيني أبو غزالة يتفق مع تلك الرؤية الصينية بعيدة النظر، فالحفاظ على الأرواح أولوية، لكن هناك أولوية أخرى، فعندما تنتهي هذه الأزمة والتي من المتوقع ألا تنتهي قبل سنة، سنجد عالما مدمرا اقتصاديا. أمريكا وحدها سيُوجد بها ٢٥ مليون عاطل عن العمل.

إذن، أليس الحفاظ على الأرواح يتطلب إطعامها، وتوفير أقوات لها، وتوفير سبل التعليم، وتوفير المستشفيات، وأن نجد لهؤلاء وظائف، فلنتأمل ماذا يقول أبو غزالة: «أربعة أشياء لا تتوقف وقت الحروب؛ الأكل، الطب، التعليم، تكنولوجيا المعرفة».
لا تعارض بين الأولويات. لا تعارض بين حماية الإنسان وحماية الاقتصاد، أم نريد أن نجد نفسنا بعد الأزمة وقد صرنا دولة فاشلة؟! دولة فيها جياع؟!

صحيح أن الدولة المصرية ضخت أموالاً لمساندة الاقتصاد، وأوقفت الفوائد على القروض، وتحاول مساندة بعض الفئات الأكثر تضرراً. كذلك فعلت أمريكا والصين. أمريكا قدمت دعماً للاقتصاد، قبل القطاع الصحي، ثم قدمت أموالا نقدية للمتضررين، بينما قدمت الصين مساعدات لمواطنيها على هيئة كوبونات، وشخصياً منحازة للتطبيق الصيني. لأنه أكثر فعالية في الحفاظ على استقرار السوق والحفاظ على وتيرة الاستهلاك وعدم توجيه الأموال اتجاهات بعيدة عن السوق. كذلك من الضروري أن تفتح الدولة المصرية باباً لتسجيل العاطلين عن العمل بسبب جائحة كورونا ودعمهم.

لماذا؟!

وأخيراً؛ لماذا أنحاز للتوفيق بين الحفاظ على الإنسان بالتوازي مع الحفاظ على الاقتصاد؟
لأنه أصبح من الحتمي اندلاع جائحة أنفلونزا أخرى. إنها مسألة وقت. وباء كوفيد ١٩، وأطواره التالية، ليس فقط تحديا صعبا، لكنه وباء يهدد العالم أجمع. ربما لا يمكن التنبؤ بتوقيت حدوثه القادم أو مكان اندلاعه. لكن يبقى التساؤل:
هل نحن مستعدون له؟! الاستعداد يعني أن نحافظ على اقتصادنا.

لذلك أرى أن نتأمل كلام الاثنين أعلاه. أراه يحمل وجهة نظر وأهمية خاصة.
علينا النظر للآراء دون تربص، وافتراض سوء النية.
علينا البحث فيما يمكن أن نستفيد منه من اقتراحاتهما.
علينا أن نضع إستراتيجية جديدة، أن نستثمر في صحة الإنسان، بأن نعيد النظر في سلم الأولويات.
الاهتمام بأنظمتنا الصحية، علينا الاستفادة من التجربة الكوبية. والاهتمام بكليات الطب وتخريح مزيد من الأطباء، الاهتمام بمدارس وكليات التمريض، وكليات الطب كافة.
علينا أن نعيد النظر في الكوادر وطبيعة أصحاب المهن التي نُلقي بها في الصفوف الأمامية أثناء ذلك الوباء أو أيٍ من فصائله القادمة. وتذكروا دوما أن أفضل طريقة للتنبؤ بالمستقبل هي أن تصنعه. علينا أن نكون طرفاً في صناعة المستقبل.
وربنا يحفظكم جميعكم.

إعلان