إعلان

ساخنة حينًا وباردة أحيانًا.. وبينهما دائمًا حروب..

د.هشام عطية عبد المقصود

ساخنة حينًا وباردة أحيانًا.. وبينهما دائمًا حروب..

د. هشام عطية عبد المقصود
07:00 م الجمعة 18 ديسمبر 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

اخترع المثقفون ذات زمن مضى مصطلحًا يعود إلى منتصف القرن الماضي هو "الحرب الباردة" يستهدف وصف حالة جديدة ناشئة وعبر عن نقل نوعية في مجال تاريخ مواجهة الإمبراطوريات والقوى العظمى لبعضها صراعا وحربا، لتصنع تحولا في مجال تاريخ الهيمنة من التوسع المعتمد على الاكتساح البشري ودخول الأراضي والتدمير الذي يعكس قوة المنتصر، إلى شكل جديد من المواجهات يحول دون المواجهة المباشرة التي تودي بالجميع في عصر التسلح النووي الذي لن ينجو منه أحد، وبالطبع لن تتكرر فيه مشاهد ذلك المنتصر الساحق القديم.

استقر المصطلح زمنا حتى ظن البعض في نهاية تسعينيات القرن العشرين أن عليه أن يذهب في هدوء إلى متحف تاريخ المصطلحات، وحيث عبر وقت ظهوره أن الحرب التقليدية القديمة التي يؤرخ لنهايتها هي دوما "ساخنة" من جراء لهيب القذاف ونيران المدافع وعن وجود مسار جديد، لا تكون فيه الخسائر بالفداحة الإنسانية العارمة التي شهدها العالم في الحربين العالميتين، وفي هذا السياق نشأ حلفان وعالمان واستقطابان، توسعت ساحة برودة الحرب بينهما، واتخذت لها مظاهر تنافس وصراع خارج الصدام المباشر، والذي كان يجري دوما تداركه عبر حكمة عميقة كلما دعت أسباب أو وقائع لحدوثه.

وكان واحدًا من أهم تجليات تلك الحب الباردة ما ظهر من التعبيرات الثقافية والأيديولوجية خاصة ما اتخذ منها من ساحة العلم مجالًا، ففي الساعة العاشرة وست وخمسين دقيقة من يوم 20 يوليو من عام 1969 هبطت سفينة أبوللو 11 الأمريكية على سطح القمر للمرة الأولى، وفي الساعة الثانية وست وخمسين دقيقة فجر الاثنين 21 يوليو من عام 1969، وضع أرمسترونج قدمه على سطح القمر، وقد تم نقل ذلك عبر الهواء مباشرة لكل العالم وحيث شاهد ذلك أكثر من 650 مليون متفرج في كل أنحاء الكون، وعبر بث مباشر أدار العقول بسحر العلم قبل أن يبهر الأبصار، وكان أول اجتماع يشمل كافة "البشر المتعولمين" حول مشاهدة حدث واحد، وطبعا أولى بشائر عصر "العولمة" التي سيأتي مصطلحها للوجود بعد حين، وقبل مرحلة انتقال شطائر البيتزا والبرجر عبورا وترحابا شهيا عبر العالم.

نقل التليفزيون لكل الناس على وجه الأرض كلمات أرمسترونج التاريخية وهو يقول بثبات: إنها خطوة إنسان صغيرة ولكنها قفزة عملاقة للبشرية، ونقلت وكالات الأنباء والصحف تلك الجملة البليغة، والتي كان يبدو في بلاغتها وفلسفتها أنها معدة سلفًا تمامًا، وربما بتعبير الفيس بوك اليوم "تنغز" في منافس يرى ويشاهد، كان ذلك في سياق حرب باردة فشل فيها الاتحاد السوفيتي القطب الثاني في الهبوط على سطح القمر، وحيث أذاع الإعلام الروسي ومن يرتبط به أيديولوجيا تقليلا من المنجز الأمريكي في وصفهم للرحلة بأنها كانت مجرد حالة سفه وإنفاق بلا حساب للثروات التي تم السطو عليها ونهبها من الشعوب النامية والفقيرة، هكذا منح الاتحاد السوفيتي وقتها وشركاه تحميلا مذهبيا لرحلة علمية قام هو ذاته بها بعد سنوات قلائل متناسيا ما وصفه بها.

مر خمسون عاما على ذلك الحدث، وها نحن وقد صار في وسع الأغنياء حجز مقاعد السفر إلى القمر وبات الشعراء – رغم أنهم مصرون ما زالوا– يدركون تمامًا صعوبة تشبيه وجه الأحبة بالقمر لكنهم وكعادتهم لا يبالون ويهيمون، وبقي من ذلك الأثر الكبير ما يستجد، وهو دخول الصين ساحة المجال ذاته، فنهاية العام الحالي تحمل أخبار مسبار الصين الذي ذهب ارتيادًا لسطح القمر والعودة، بعد غياب وهجر له من قبل "فاتحيه الأوائل"، وهكذا توافرت لدى الصين الرغبة والقدرة والإرادة على السفر الجديد، ربما لتدشن تاريخًا ما عبر الهبوط على منطقة لم ترتدها السفن الأوائل، لتحصل على عينات من صخوره ولتكون الدولة الوحيدة التي هبطت على الجانب الآخر البعيد والصعب من سطح القمر.

ماذا تريد الصين أن تقول برحلتها في ديسمبر الحالي ووسط كل انشغال وفزع العالم بفيروس كورونا وتزايد معدلات إحصائه غربيًا، بينما تنطلق بيانات الصين المعلنة أمس لتقول شيئا مذهلا أن معدل إصابات كل وعموم الصين –ما يقرب من مليار وأربعمائة مليون نسمة– أمس الخميس بلغ وفقط (12) اثنتا عشرة حالة إصابة بكورونا ولا وفيات، هل هناك ثمة علاقة بين الحدثين تقودنا إلى مسار العلم؟.

تعود الحرب الباردة ساخنة تمامًا في توترها وتصاعد حدتها ومن جديد على مناطق النفوذ في العالم، وتعود هذه المرة ليس فقط بقوة السلاح –وإن ظل كامنًا في الخلفية– ولكن بقوة العلم والتهديد بالاختراق السيبراني، وهجمات تخطي وشل قدرة أنظمة الكمبيوتر في الهيئات والجهات المؤثرة في عصب نظم الاقتصاد، بل وأنظمة التسليح ذاتها في الدول المتنافسة، فما بالك أن تعلن وزارة الطاقة الأمريكية أمس وهي المسؤولة عن إدارة الأسلحة النووية الأمريكية بأنها تعرضت لاختراق إلكتروني في ظل موجة طالت مؤسسات أمريكية كبرى أخرى.

لم تعد الفضاءات والمصالح التي تتأسس عليها الإنترنت قابلة بعد لوصف متكلس اسمه " افتراضية" فلم تعد مجرد طائرات ورقية تجوب الفضاء يلهو بها الأطفال، بل منظومة وشبكة عصبية حيوية تؤثر على حركة وبقاء الناس والمؤسسات والدول، وبينما تتسارع حياة البشر والمجتمعات في الكون اعتمادًا على الإنترنت من طلاب المدارس الصغار في الفصول، وحتى تسلية العجائز في الشتاء حول نار المدفأة، وما بينهما من أنظمة حياة ومعيشة وتنقل واقتصاد تسليح ومجالات عمل متخصصة، وحيث يمكن لها كلها أن تفقد حركتها فتتعطل سيرة حياة البشر أو تتعرض لخطر مفاجئ، إذا ما داخلها فيروس أو هجمات تسكتها أو تحول دون تدفق مسارات عملياتها المعتاد.

تهديدات الحياة لم تعد واقفة عند حدود فيروس وبائي يتجول في العالم بحرية ويتحور ويمتد، وإنما معه ويتوازى قوة ودأبا فيروس آخر جعل البشر يفقدون صلاتهم بما كانوا يظنونه عالمهم المستقر، تلك هي الحرب وتلك هي أرضها الجديدة، وبينما تتناثر الاتهامات غير الرسمية لروسيا بشأن تلك الهجمات يأتي الرد الرسمي دالا، حيث يقول متحدث الكرملين رافضا تلميحات الاتهامات بأن أمريكا تجاهلت اقتراحاتهم بالتعاون في مكافحة القرصنة الإلكترونية، وأنه إذا كانت هناك هجمات لم يتمكن الأمريكيون من التعامل معها وصدها فليس ذلك مبررًا لاتهام روسيا، وأنها بريئة منها تمامًا.

إعلان