إعلان

من يعبر الحواجز يصبح كبيرًا (2) "الشروط الذاتية"

د. أحمد عمر

من يعبر الحواجز يصبح كبيرًا (2) "الشروط الذاتية"

د. أحمد عبدالعال عمر
07:00 م الأربعاء 16 ديسمبر 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

إن المفكر لا يصبح كبيرًا بالاحترام الحقيقي أو الزائف الذي يُحيط بالنص الفكري الذي يقدمه، وإنما باشتباك النص مع الواقع، وهو الاشتباك الذي يحول النص من كلمات مطبوعة على الورق إلى حياة زاخرة بالصراع والمتناقضات، وبما يؤهله لفرض ذاته على الواقع.

تلك هي خلاصة المقال السابق، الذي عرضت فيه لرؤية الراحل الدكتور غالي شكري، للسمة الأساسية التي تجعل المفكر كبيرًا، وهي أن ينتج نصًا فكريًا قادرًا على الاشتباك مع الواقع وهمومه ومشكلاته، والتي قدمها في مقال له بعنوان: "من يعبر الحواجز يصبح كبيرًا" نُشر في جريدة الشرق الأوسط في بداية تسعينيات القرن الماضي.

وفي هذا المقال أعرض لرؤيته للشروط الذاتية التي يجب أن تتوفر في النص وصاحبه، والتي قد يؤدي غياب أحدها أو عدم نضجه إلى تراجع النص عن مكانته المرشح لها، وفي المقال القادم أعرض للشروط الموضوعية التي تتعلق بعصر المفكر وسياقه ومجتمعه، والتي يتحتم وجودها لكي يصبح المفكر كبيرًا.

وتعود الشروط الذاتية للمبدع والمفكر ذاته، ويتحتم توفرها مسبقًا وقبل دخول المفكر في أي معركة كبيرة أو صغيرة، وأول هذه الشروط: أن يكون المفكر موهوبًا في التفكير، ومثقفًا تلك الثقافة التكوينية القادرة على تأسيس العقل المستقل، والقادرة كذلك على إمداد هذا العقل بأكبر قدر من الموضوعية على حساب العاطفة أيا ما كان نوعها.

وموهبة التفكير يُقصد بها هنا "الطاقة الإبداعية" التي تمنع صاحبها أن يكون مجرد صدى لأفكار الآخرين بالموافقة أو المعارضة، أو صورة منقحة لأصول أخرى. وعندما تتضافر موهبة التفكير مع الثقافة التكوينية، تنتج التفكير المستقل.

ويؤكد الدكتور غالي شكري فكرته تلك بإعطاء أمثلة على كتابات تمتع أصحابها بالموهبة في التفكير والثقافة التكوينية، وأثارت جدلًا في وقتها، وصنعت أسماءً وحضورًا لأصحابها، مثل كتاب "في الشعر الجاهلي" للدكتور طه حسين. وكتاب "الديوان" للعقاد والمازني. وكتابي "النقد الذاتي بعد الهزيمة"، و"نقد الفكر الديني" للراحل الدكتور صادق جلال العظم، وكتاب "الأيديولوجية العربية المعاصرة" للدكتور عبدالله العروي، وكتاب "نقد الفكر العربي" للراحل الدكتور محمد عابد الجابري.

كما يمكن أن يُقال هذا الكلام أيضًا على كتابات بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعبدالوهاب البياتي وأدونيس وصلاح عبدالصبور وخليل حاوي في معارك الشعر الجديد. وعن جبرا إبراهيم جبرا، وعبدالرحمن منيف، وغسان كنفاني، ويوسف إدريس، وفتحي غانم، وإدوارد الخراط وفؤاد التركلي، وزكريا تامر في معارك القصة والرواية، وعن ألفريد فرج ومحمود دياب وسعدالله ونوس والطيب الصديقي في معارك المسرح، وعلى غيرهم من المفكرين والمبدعين الكبار الذين انطوت مواهبهم على طاقة إبداعية للتفكير المستقل.

أما الشرط الثاني، الذي يجب توفره سلفًا في أي مبدع أو مفكر كبير، فهو أن يكون تفكيره المستقل استراتيجيًا ذا رؤية شاملة في إطار دعوة أو رسالة.

وهو ما يعني عند الدكتور غالي شكري، أن يملك المفكر إلى جانب تخصصه العلمي أو التقني أو المعرفي، رؤية مركبة للظواهر التي تشكل في مجموعها سياق الحياة الإنسانية؛ فلا يمكن مثلًا للكاتب الذي يعرف أسرار اللغة ويجهل أسرار النفس الإنسانية، وأسرار الزمان والمكان أن يكون كاتبًا كبيرًا. ويستحيل على المفكر الذي يُدرك قواعد الحرب والسلام، ولعبة السلطة والسياسة، ويجهل في الوقت ذاته مفارقات الجغرافيا والتاريخ، وغرائز الأفراد، وسلوك المجتمعات أن يصبح مفكرًا كبيرًا.

أما الشرط الأخير، الذي يجب توفره في ذات المفكر الكبير إلى جانب موهبة التفكير المستقل، والثقافة التكوينية والرؤية الاستراتيجية الشاملة، فهو الشجاعة الروحية، والقوة النفسية، والقدرة المعنوية على حمل "الرسالة"؛ فليس ثمة مفكر كبير دون تلك الشجاعة، التي تجعل المفكر مستعدًا لدفع ثمن الأفكار والكشوف التي يريد إبلاغها للآخرين، ومحاولة إقناعهم بها، وليس فرضها عليهم.

تلك هي الشروط الذاتية الثلاثة التي حددها الراحل الدكتور غالي شكري في ذات المفكر، والتي تجعله يعبر الحواجز ويصبح كبيرًا، وفي المقال القادم أعرض للشروط الموضوعية التي تتعلق بعصر المفكر وسياقه ومجتمعه.

إعلان